أخرى في تجاذبات كادت في حينها تعصف بأوضاع البلاد وتبدو الآن في شبه مراوحة، في ظلّ هذا التوافق الموزون بين حزبين، أو بالأحرى بين «شيخين» بارعين في حبك السيناريوهات والمشاهد السياسيّة وإخراجها للعموم.
لا ننطلق من هكذا ملاحظة لتقييم أوضاع سياسيّة مهزوزة أدارتها حكومات تعاقبت على حكم تونس بعد 14 جانفي، فهذا ممّا يفيض فيه الرأي والتحليل ولا يستوعبه سياق هذا التحرير، لكنّنا نريد أن ننبّه إلى مفارقة كبرى بتنا مع تراكم الإخفاقات نراها بيّنة ساطعة قد لا يراها من لا يريد أن يراها أو يبهره نورها، مفارقة محصولها أنّ كلّ الّذين مرّوا بقرطاج والقصبة من رؤساء ورؤساء حكومات ووزراء على اختلاف انتماءاتهم مثّلوا بطريقة أو بأخرى مظهرا من مظاهر «ثورة مجنونة... ثورة بلا رأس» دارت على أهلها تُفزعهم وتضطهدهم أوّل ما دارت، أمّا الرؤساء والوزراء على اختلافهم فهم أيضا إنتاج لجنونها ودورانها، حتّى أولائك الّذين قامت في الأصل ضدّ مصالحهم، نفهم حينئذ لماذا لم يحملوا همّ تلك «الثورة» ولا حرقة مفجّريها وحرارة شعاراتها، بل لماذا ساهم بعضهم في انفلاتها ودورانها.
أصبحت المسافة كافية الآن من جهة الأوضاع السياسيّة ومتغيّراتها ومن جهة النتائج الاجتماعيّة والاقتصاديّة الحاصلة لملاحظة هذا الكمّ من الإخفاقات في التعبير عمّا أراده الشعب التونسيّ ونخبه من تغيير حقيقيّ ونقلة نوعيّة في أوضاع تونس الوطنيّة وآفاقها الإنسانيّة.
سؤالنا المحوريّ الآن: هل سيكون السيّد يوسف الشاهد شاهدا على مرحلة أخرى من مراحل هذه التداعيات المحبطة أم مغيّرا فاعلا فيها يمكن له النجاح في تجاوزها؟
سؤال منهجيّ إجرائيّ بلا مرجعيّة إيديولوجيّة ينطلق من جملة ملاحظات منبعها ما جرى ويجري في حياة التونسيّين من ضعاف الحال إلى أقويائه، لأنّنا نلاحظ أنّهم جميعا في شدّة وضيق، إن لم يكن مادّيّا لدى بعض الفئات فهو نفسيّ ومعنويّ وإنسانيّ أبلغ تأثيرا وتعبيرا. نحن نرى التونسيّين على تنوّع منحدراتهم واختلاف انتماءاتهم وتعدّد مواقعهم مرضى بوطنهم عشقا وإلهاما، مُجمعين على كونه يستحقّ منهم أفضل بكثير، من بذلهم وحكمتهم وانضباطهم.
لا شكّ في أنّ السيّد يوسف الشاهد على بيّنة من التحدّيّات والرهانات المطروحة عليه وهو يرى أمامه علامة حمراء لم تظهر لسابقيه من رؤساء الحكومات علامة «ممنوع الفشل» لم تكن مطروحة بنفس الحدّة والعُمق في مراحل انتقاليّة سابقة أفرزت في الواقع تداولا على السلطة ومواقع الحكم أفاد منه ساسةٌ كُثُـر من دون نتائج إيجابيّة في ملفّات التشغيل والتنمية والعدل والعناية بالمرفق العامّ وشأنه، بل من المستغرب حقّا أنّ تلك المراحل أفرزت ظواهر مُستهجَنة من التجاوز والفوضى والعنف والفساد لم تكن مُتوقّعة بهذا الحجم في انتشارها واستفحالها حتّى بدت وكأنّها منظومات ومؤسّسات هيكليّة لها أعوان نافذون في كلّ الميادين والقطاعات والمناطق والفئات، حتّى تلك القطاعات والفئات الّتي كنّا نعتقد أنّها مستعصية الاختراق عن كلّ مظاهر التجاوز والفساد.
هذه المنظومات والمؤسّسات باتت متفشّية على نطاق واسع، وهي من أخطر ما بات يعوق المجتمع التونسي شعبًا ودولةً وثقافةً عن تخطّي هذا المأزق السياسيّ الّذي أدّى به إلى حدِّ فاصل خطير بين النكوص على الأعقاب في اتّجاه بؤرة الفساد والتخلّف الّتي سار شوطا هامّا في تجاوزها بسعيه إلى إقامة الجمهوريّة الأولى، والتطوّر في اتّجاه التقدّم من خلال دعم مقوّمات الدولة المدنيّة الحديثة في ظلّ الجمهوريّة الثانية.
نرجو من السيّد يوسف الشاهد الوعي العميق بهذا الحدّ الفاصل وضرورة تخطّيه في الاتّجاه الصحيح عند وضع الرسم النهائي لفريق عمله وضبط إستراتيجيّته حتّى يجعل من دار الضيافة عنوانا/ رمزا من عناوين التغيير الفعلي العميق وحتّى لا يكون كسابقيه مجرّد شاهد على مرحلة أخرى من مراحل تونس المتأزّمة.
محسن التليلي: أستاذ تعليم عال بكلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بجامعة سوسة