يوم تمت المراهنة على ان يكون نقطة التحول في المسار السياسي للبلاد الا انه تاكد المعلوم وهو القطيعة بين الشارع واللاعبين حكما ومعارضة دون استثناء.
خلال الايام الفارطة حرص كل من «الدستوري الحر» و«جبهة الخلاص» على التحشيد الى التطاهرتين اللتين دعا كل منهما انصاره الى الالتحاق بها ورفعوا من سقف انتظراتهما وأمالهما المعلقة على الحدث. سيما وان البلاد تعيش في ظل التوتر الاجتماعي المتصاعد على خلفية تقصير السلطة في معالجة حزمة من الملفات.
رهان رفع كل طرف أماله بشأنه وعمل على ان يغنم المكسب وهو ان يعيد رسم التوازنات في الشارع وان يخلق حركية جديدة فيه مناهضة للرئيس ولمساره السياسي تنجح في حشد الالاف من المواطنين الغاضبين على ادارة ملفات الحكم في مرحلة الاستثناء. وهو ما عبرت عنه تصريحات قادة ضلعي مثلث المعارضة. الدستوري الحر وجبهة الخلاص في الايام الفارطة.
لكن كما قالت العرب قديما «حسابات الحقل ليست كحسابات البيدر»، اذ حل اليوم المنشود ومعه اتضحت الصورة واتضح الخلل في الحسابات التي قامت بها الاطراف السياسية المعارضة، فالشارع الذي انسقم الى جزءين انتهى الى ان يكون في المنتصف في كل شيء. فقد حشد طرف انصاره على حدة بعدد ليس بالقليل حتى يقال انه فشل ولم يكن الجمع غفيرا ليحدث نقلة في المعادلة. اذ حافظت المعادلة السياسية على توازناتها التي سبقت يوم الحشد.
هنا بعيدا عن السردية التي يتقدم بها كل طرف من الاطراف التي دعت امس الى الاحتجاج او من السلطة التنفيذية الحاكمة، خصمهما في اللعبة السياسية. يتجلي بشكل صريح ان الشارع التونسي ليس في حالة سكون بل هو متحرك بديناميكيات متعددة متصارعة في ما بينها منفصلة لا يمكن لأي منها ان تحدث تأثيرا ينتهى بتغيير المعادلة. خاصة وان هذه الديناميكيات تتصارع في ما بينها داخليا ويعمل كل طرف على اضعاف الاخر بأشكال عدة.
صراع يحول دون ان تبرز قوة سياسية قادرة على ان تولد حراكا شعبيا او ان تؤطر حالة الغضب المتصاعد ضدّ السلطة التنفيذية وضدّ رئيس الجمهورية لتجعل منه محركا لتغيير التوازنات السياسية، ذلك انه -يوم امس- ورغم الخطاب الاجتماعي الذي رفعه قادة التحركين ومحاولتهم الربط بين البعدين السياسي والاجتماعي لإبراز فشل السلطة الراهنة الا ان الامر لم يثمر عن حشد واسع للشارع خلف احد الطرفين.
هذا نصف المشهد العام ليوم امس اذا تعلق الامر بحال المعارضة، اما النصف الثاني وهو المتعلق بالسلطة والرئاسة وهنا تتالت الاحداث والرسائل السياسية التي تواترت خلال الساعات الـ36 الفارطة اذ انطلقت ببلاغ لوزارة تكنولوجيات الاتصال قالت فيه ان ما يقع تداوله من اخبار وصور لاحداث تشهدها تونس هو فبركة من قبل «ذباب الكتروني» وبعد ذلك بدقائق صدر بلاغ عن رئاسة الجمهورية تعلق بلقاء الرئيس برئيسة الحكومة نجلاء بودن تناول ماساة جرجيس وفقدان مادة البنزين من محطات الخدمات.
بلاغان وان كان كل منهما يسعى لاستيعاب الغضب او تبديده بطرق مختلفة الا ان كليهما كشف عن «تخبط» اصاب السلطة التي ارتبكت من حركة الشارع ومنسوب الغضب الذي بات بارزا على الارض او في الواقع الافتراضي.
ارتباك وخوف تجدد الكشف عنهما يوم امس في مضمون التسجيل المصور الذي نشرته صفحة الرئاسة على شبكة التواصل الاجتماعي فايسبوك، حينما حرص القائمون على الاتصال في رئاسة الجمهورية على ابراز كلمات لقدماء المقاومين لرئيس الجمهورية وما حملته من عبارات دعم او اشادة بلغت حد اعتبار الرئيس قيس سعيد مبعوث العناية الالهية لتونس بعد الحبيب بورقيبة.
هذا التسجيل وما حمله من كلمات لرئيس الجمهورية عن معرفته بالتاريخ وحقيقة الناس كان الغرض الرئيسي منه ابراز تمتع الرئيس بمشروعيتين، مشروعية تاريخية تتجسد في الدعم الذي يقدمه «المقاومون» له باعتباره سيستكمل مسيرة الاستقلال ومشروعية شعبية بإبراز حالة الرضا والدعم الشعبي للرئيس عبر مقولات «المقاومين».
هنا ايضا يتضح جليا ان السلطة باتت تدرك دخولها مرحلة التآكل والاهتراء وفقدانها القدرة على التحكم في الشارع وحشده خلفها سواء في الواقع او على شبكات التواصل الاجتماعي وهو ما يبين حالة الارتباك والتخبط في التعاطي مع الاحداث الاخيرة من تحركات احتجاجية شعبية او حزبية تخشى الرئاسة ومن خلفها انصارها ان يتقاطعا في مرحلة ما فيحدثان زخما سياسيا يعيد رسم المشهد.
هذا الزخم الذي تجنبته السلطة امس حينما لم تنجح المعارضة في خلق اتصال بين تحركاتها وبين تحرك الشارع الغاضب يبدو انه سيكون اكبر مخاوف «السلطة» التي قد تمارس ذات الخطإ القديم وهو سوء تقدير الموقف السياسي وسوء قراءة توازناته التي انطلق زمن تغييرها في انتظار نجاح جسم سياسي في الجمع بين حركيتين. حركية النخبة وحركية الشارع.
ما يجب ان تدركه الرئاسة ان «الشعب» الذي احتكرت الحديث باسمه والتعبير عن ارادته جدد في تحركاته الاخيرة رسائله التي وجهت في الاستشارة وفي الاستفتاء وفي جل المحطات السياسية التي راهنت السلطة على ان تجسد التحام الشعب معها فكان لها عكس ما انتظرته.