سيصاب بالحيرة والارتباك لحجم التناقض بين ما تقدمه السلطات الرسمية من صورة عامة تريدها ان تكون طبيعية وبين حقيقة الوضع الذي تكشفه المؤسسات المالية والدولية.
يوم امس الموافق لـ30 ماي 2022 تزامنت ثلاثة تطورات سياسية، الاول صدور تقرير وكالة فيتش للتصنيف الائتماني الثاني صدور بلاغات وتصريحات حكومية عن الاولويات والاصلاحات اما الثالثة والاخيرة فهي كلمة رئيس الدولة لدى استقباله وزير الخارجية. أحداث متزامنة كشفت عن حجم البون بين ما تسوقه الحكومة عن حقيقة الوضع وتقدمه بأشكال عدة عبر بلاغات وأوامر ومناشير وتصريحات وبين ما كشفه التقرير الصادر عن وكالة التصنيف من خطورة الوضع وبين ما يشغل سلم اولويات الرئيس من «تحقيق سيادة الشعب».
تناقض يكمن في ان الحكومة تسوق للوضع على انه طبيعي جدا رغم الصعوبات ولا خطر قد يحدق بالبلاد ووضعها المالي، فهي منكبة على الاعداد لميزانية 2023 وانجاز البرنامج الوطني للاصلاح. هذا البلاغ عقبه لاحقا تصريح لوزير التشغيل والناطق الرسمي باسم الحكومة نصر الدين النصيبي تحدث فيه عن تغيير في اولويات الحكومة وعن امله في ان يتفاعل الاتحاد العام التونسي للشغل تفاعلا ايجابيا مع التغيير الناجم عن تداعيات الحرب الروسية الاوكرانية، فالاولويات اليوم باتت «توفير المواد الأساسية والمحروقات للتونسيين والتحكم في غلاء الأسعار» وفق النصيبي وهذا سيؤثر على قدرة الحكومة على تحقيق المطالب المادية للاتحاد.
هذه التصريحات التي تسوق للوضع على انه صعب ولكنه تحت السيطرة تتناقض بشكل كليا مع ما حمله تقرير وكالة التصنيف الائتماني فيتش الصادر يوم الاثنين الفارط، فبينما تقدم الحكومة صورة «وردية» نسبيا عن وضع البلاد وأنها قادرة على التحكم في كل المخاطر ومستعدة لمجابهة الارتدادات تعلن الوكالة الدولية ان البلاد اقرب من أي وقت مضى من الذهاب الى نادي باريس.
فوكالة فيتش للتصنيف الائتماني تقول في احدث تقرير خاص بتونس ان البلاد ليس امامها من حل غير الوصول الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي خلال الثلاثي الثالث. أي انها امام اقل من اربعة اشهر كحد اقصى لانقاذ وضعيتها وتجنب الانهيار. الذي لا يمكن تجنبه الا باتفاق مع صندوق النقد الدولي في مدة لا يتجاوز شهر سبتمبر القادم.
اما هذا الاتفاق او الذهاب الى نادي باريس وما سيترتب عن هذه الخطوة من تداعيات كارثية، اذ ستنهار قيمة الدينار وستتآكل مخزونات البلاد من الدولار المقدرة بـ8.4 مليار، هذه التداعيات الاولية ان اضيف اليها ارتفاع عجز الميزانية والعجز التجاري ستؤدي الى مخاطر اقتصادية واجتماعية كبرى.
خطر تحذر منه وكالة التصنيف وتحذر من تداعياته على البلاد، التي باتت منذ 2021 في خانة الدول التي تصنف ديونها على انها غير مستدامة أي انها قد تواجه خطر التخلف عن سداد الديون، واليوم باتت البلاد على بعد خطوة واحدة من حدوث الامر.
فما يحول بين تونس وبين الذهاب الى نادي باريس هو الاتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي يشترط ان يقع اعتماد برنامج إصلاح قوي وموثوق يحظى بدعم واسع وخاصة من الاتحاد العام التونسي للشغل. هنا ووفق ما تلمح اليه الوكالة تكمن فرصة الانقاذ، فوكالة التصنيف الائتماني تثق في ان وصول حكومة نجلاء بودن الى اتفاق مع الاتحاد بشأن الاصلاحات الاقتصادية سيمكن من الوصول الى «تمويلات صندوق النقد الدولي» اضافة الى دعم خروج تونس الى السوق المالية وتعبئة تمويلات اضافية في ظل ازمة السيولة المالية التي تواجهها.
غير ان هذا البصيص من الامل يواجه عقبة كبرى وهي «توتر المناخ السياسي» فرفض الاتحاد العام التونسي للشغل المشاركة في الحوار الوطني الذي يدعو اليه الرئيس يعنى بشكل ضمني صعوبة تحقيق هذا الشرط الموضوعي الذي يضعه صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية.
بعبارات منمقة ودبلوماسية تشير وكالة التصنيف الائتماني الى ان البلاد اليوم امام فرضيتين لا ثالث لهما، الاولى وهي فرضية عدم تقديم خطة اصلاحات تحظى بدعم واسع او تؤخر تقديم هذه الخطة الى الثلاثي الرابع من السنة الراهنة . فمعناه ان تونس امام حتمية الذهاب الى نادي باريس قبل أن تصبح مؤهلة للحصول على تمويل إضافي من صندوق النقد الدولي .
اما الفرضية الثانية فهي الوصول الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي وهذا ممكن جدا فقط ان قدمت تونس خطة اصلاحات اقتصادية مدعومة من الاتحاد. وهنا يشير التقرير الى ان الرئيس ورغم شعبيته الا انه لا يمكنه ضمان تحقيق الاصلاحات دون دعم الاتحاد- وهو تلميح كاف للقول بان فرصة الخروج من الازمة هي التوافق مع الاتحاد.
هذا فقط ما تقوله الوكالة وتترك عملية التفسير والتفكيك والفهم للسلطات التونسية، مع تقديم تلميحات تساعد على الفهم ومنها اشارة التقرير الى ان الاتحاد والمنظمات الوطنية تشترط لدعم خطة الاصلاحات ان يكون المسار السياسي والاقتصادي متصلين ومنسجمين لا منفصلين وان يعدل الرئيس من طريقة ادارة للشأن العام.
شرط يتمسك به اساسا الاتحاد وهو يدرك ان كل التطورات القادمة من كواليس الحكم وقصر قرطاج تفيد بان شرطه لن ينفذ، فالرئيس شدد يوم امس في لقائه بالجرنادي على انه لا تراجع عن تحقيق ارادة الشعب وان السيادة للشعب وليس للخارج دولا ومؤسسات ولجانا، في معرض تفاعله مع ما طالبت به لجنة البندقية التي امر الرئيس بان يغادر أي ممثل لها تونس وان لا يقع استقبال اعضائها لاحقا وان تعمل وزارة الشؤون الخارجية على الغاء عضوية تونس في اللجنة..
سيادة الشعب من مقاربة الرئيس هو ان يكتب دستوره ويغير النظام والمنظومة وسيحقق هذا كلفه الامر ما كلفه، فالرئيس متمسك ومتشبث كليا بما رسمه من مواعيد للاستفتاء على الدستور وانتخابات تشريعية والاهم تجسيد ارادة الشعب التي عبر عنا في الاستشارة الالكترونية.
هنا يتضح جليا ان الفسحة اوشكت على النهاية وان الهاوية التي حذر منها الاف المرات باتت امام مرمى البصر ولا فكاك منها الا بمعجزة مفاتيحها اليوم في قصر قرطاج الذي اوصدت ابوباه.