في ظل المشهد السياسي الحالي وأزمات المالية العمومية: متى سيدعو سعيد وبودن إلى هدنة اجتماعية ؟

الهدنة كلمة تكررت طوال السنوات العشر الماضية على لسان الماسيكن بمقاليد الحكم، كل يطوعها وفق مصالحه وتصوراته السياسية مما افرغها من مضامينها الفعلية

وجعلها ورقة سياسية يراد بها المناورة لا البحث عن حل لازمات البلاد التي باتت تحتاج اليوم فعليا الى هدنة اجتماعية على غير الصيغ التي وقع تسويقها في السابق.

ما رسخ في الاذهان عن الهدنة هو انها تتجه راسا الى الاتحاد العام التونسي للشغل لتطالبه بتجميد مفاوضات الزيادة في الاجور ووقف الاضرابات المطلبية والاحتجاجية بحجة ان آلة الانتاج تعطلت وان البلاد في امس الحاجة لاستئناف نشاطها الاقتصادي بكامل طاقتها.
هذه الحجة التي تقدم بها الجميع تقريبا في ظل انطباع عام لدى التونسيين بان الازمة الفعلية للبلاد تنحصر في الاضرابات والزيادة في الاجور، في حين ان ازمات البلاد اشمل واعقد من هذا بكثير، فتونس وطوال سنوات السابقة لـ2011 كانت تعاني من ازمات هيكلية لم تنجح نسب النمو المحققة في حجبها.
ازمات هيكلية طالت الاقتصاد التونسي ومنوال التنمية وكامل عناصر العملية الانتاجية عرتها وكشفت عنها بشكل حاد ومباشر الثورة وما لحقها من تطورات سياسية وتجارب حكم لم تستوعب حاجة البلاد الملحة للتغير الفعلي واعادة رسم عقد اجتماعي جديد يعيد رسم الفضاءات العامة والأدوار والعلاقات فيها بين الدولة والافراد والجماعات وفق مقاربة تستبطن ما حدث في 2011.
كل هذا القي خلف ظهر الفاعلين في الحكم وبرزت بدلا عنه القطاعية والزبونية والغنائمية في العلاقة بين الدولة ومكونات المجتمع لتصبح العملية وكأنها مغالبة ومحاولة لاستثمار ضعف الدولة لتحقيق مكاسب حتى وان كانت ظرفية والسنوات العشر مليئة بالأمثلة التي تبين حجم الانهيار الذي اصاب الدولة والمجتمع.
اليوم ومع بلوغ البلاد مرحلة خطيرة تعبر عن نفسها في التصنيف الائتماني الجديد لتونس وفي تراجع ثقة المستثمرين في السندات الرقاعية التونسية التي يصدرها البنك المركزي وتعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والعجز عن تعبئة موارد مالية لغلق ميزانية 2021 اضف لهذا كل المؤشرات الاقتصادية والمالية في تونس التي تكشف عن ان اقتصاد البلاد رغم ما يسوق له من تحقيقه لانتعاشة طفيفة او بداية تعاف يعاني من ازمة عميقة وغياب القيمة المضافة.

هذه ازمة البلاد وعلاجها لن يكون بخطابات سياسية او بصراع هوياتي عن طبيعة المجتمع ودينه ولا باية قراءة دستورية هي الاسلم اليوم، بل يعالج بالعودة للعقلانية واول شروطها ان نعيد ترتيب الاولويات ونجعل من الاقتصاد والتنمية على راس اولويات البلاد ولاعبيها الرئيسين. بعيدا عن خطابات التخوين او الشيطنة التي و-طوال السنوات الفارطة -لم تثمر الا مزيدا من تردى الاوضاع.
اليوم تحتاج البلاد فعليا الى هدنة، وليست هدنة يراد منها وقف مفاوضات الزيادة في الاجور او وقف الاضرابات او الاحتجاجات والاعتصامات من مقاربة ان المعالجة تقتصر عند هذه النقطة، فهذا واذا طبق لن ينجح اطلاقا وحتى ان وقعت معجزة وتم الامر فان ثماره ستكون ظرفية تؤجل النهاية الى سنوات لاحقة.

الهدنة التي تحتاجها البلاد، حتى وان كان من عناصرها ما يلقى على كاهل الشغالين والموظفين وممثلهم الاتحاد العام التونسي للشغل فان الاعراف والدولة والمجتمع بافرادها وجماعاته تلقى عليهم مسؤولية تقاسم التضحيات لتحقيق هدنة توفر حيّزا زمنيا لمعالجة الملفات المتراكمة ورسم خطط انقاذ وترتيب الاولويات.

والاهم توفير زمن لعقلنة النقاشات العامة لبلوغ اجابة عن سؤال رئيسي «اي تونس نريد؟» هذا السؤال على بساطته شرط اساسي لتحقيق اي تغير فعلي في حياة التونسيات والتونسيين. فاي تونس نريد تتجزأ لتصبح اي مدرسة وأي نظام تعليمي نريد؟ اي دور للدولة واي منوال اقتصادي افضل واية خدمات يجب على الدولة ان تقدمها؟ في مقابل الضرائب التي تقتطع؟ وقس على هذا التجزيء لتطرح الاسئلة الكبرى التي تحتاج لنقاش عميق.
وفي انتظار استكمال هذه النقاشات هناك العاجل والضروري وهو هدنة او وقت مستقطع لاسترجاع الانفاس وانقاذ البلاد من مصائر لا تسر احد. ايا كان تموقعه السياسي الراهن او قراءته لاحداث 25 جويلية. ففي نهاية المطاف نحن في فلك اصابه الماء من اسفله ولإنقاذه الخيارات واضحة وما هو مطلوب من الجميع واضح.
والجميع هنا تشمل ايضا الدولة ومؤسساتها التي لا تعفيها الهدنة او وقع اقرارها من القيام بأدوارها الاجتماعية ولا الايفاء بالتزاماتهما وهذا يعنى أن الحكومة الحالية ورئاسة الجمهورية، مطالبتان إذا ارادا الهدنة وهي ضرورية. ان يسعيا اليها صراحة وبشكل مختلف عماّ فعله البقية.

فالرئيس ورئيسة الحكومة يدركان انه وبعد تقلد الحكومة لمهامها برزت مطالب اجتماعية سواء من قطاعات او من جهات باكملها تعلم ان وضعية المالية العمومية اليوم وفي السنوات القادمة ستكون صعبة وهو ما يفرض عليهما باعتبارهما السلطة ان يقدما حلا للتونسيين.

والحل معلوم وهو «الانتاج» وخلق القيمة المضافة لخلق الثروة التي يجب اعادة توزيعها بشكل عادل يقطع مع الحيف والتمييز، ولبلوغ هذه المرحلة عليهما او بشكل ادق على الرئيس ان يدعو الى هدنة اجتماعية محددة المعالم والادوار، وعليه قبل ذلك ان ينخرط في الهدنة بان ينهي حالة الاستقطاب الحاد عبر خطابات تشيطن وتخون من يختلف عن الرئيس او من يراه الرئيس جزءا من المنظومة التي يريد اسقاطها.
هذه المنظومة الهلامية هي «منظومات» تعاني من ازمات هيكلية ولمعالجة نتائجها يجب ان تعالج ازمتها الهيكلية دون ذلك سيستمر الامر الى ما لا نهاية له، وهو ما يعنى ان على الرئيس عقلنة خطابه وادراك ان البلاد تحتاج الى تجميع طاقتها وكل فئاتها لا الى تقسيمهم فرق وشيع كما فعل السابقون.
تونس اليوم في حاجة الى ان ينتقل سعيد من مستوى الخطاب الحماسي الملهم «للشعب» والمساير له الى رئيس لكل التونسيين له خطاب عقلاني يؤسس للاصلاحات الموجعة والضرورية وينهى حالة الزبونية التي رسخت خلال السنوات السابقة.
إما هذا وإلا فاننا وللاسف سنشهد ما لا يمكن لعقل ان يتوقعه، فالسينارويهات القادمة إذا استمر الوضع ستكون كارثية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115