في عشرية الثورة وتواتر الأزمات : تونس بين تناقضات دولة الواقع ودولة القانون

عاشت البلاد يوم أمس كما اعتادت على وقع احتجاجات امام البرلمان وتحركات واعتصامات في الجهات، يوم ولئن تعددت تطوراته السياسية وأحداثه يظل «طبيعيا» بعد ان باتت البلاد تعيش

على وقع قطيعة بين ما هو واقعي وما هو قانوني في قطيعة مع منظومة الحكم والماسكين بها. قطيعة اشتدت مع بلوغ الثورة عامها العاشر.

يسود انطباع لدى جزء من الراي العام التونسي بأن البلاد في طريقها الخاطئ وان الأوضاع ما قبل 2011 افضل مما هي عليه الاوضاع اليوم ناهيك عن فقدان الثقة في الطبقة السياسية، انطباع عام يختزل اكثر ليكون انطباعا بان ازمة البلاد وما تعيشه ليس الا نتاجا للبرلمان خاصة في عهدته الحالية 2019 /2024 وتحديدا عن الاغلبية البرلمانية.
اختزال ازمات البلاد السياسية ومشاكلها الاقتصادية والاجتماعية حصرا في مجلس النواب تعبير عن اختزال تجربة الثورة والنظام السياسي الحالي في مؤسسة وحيدة باتت خلال السنة والنصف المنقضية من عهدتها محل انتقادات بلغت رفع مطلب حل البرلمان ودعوة الرئيس للاخذ بزمام الامور. اختزال ساهم في بلورته مجلس النواب نفسه، اذ تجلى ان المؤسسة التشريعية ومنذ بداية عهدتها اعلنت عن القطيعة بين الزمن السياسي الواقعي والزمن القانوني. وذلك بخيار حركة النهضة ان تجعل الزمن القانوني واقعا مزلا منذ مسار تشكيل حكومة المكلف الحبيب الجملي.

خطأ النهضة انطلق منذ ان اختارت الدفع برئيسها راشد الغنوشي الى رئاسة البرلمان وهي تدرك ان التوازنات البرلمانية هشة وتتطلب تقديم تنازلات كبرى لفائدة حلفاء هم قلب تونس وائتلاف الكرامة الذي بات يمثل احد عناوين الازمة في البرلمان بفضل خطابه المحرض على الكراهية والعنف وتورط نواب منه في احداث عنف ببهو البرلمان، ناهيك عن التجاذب بين كتلة الائتلاف وكتلة الدستوري الحر التي جعلت مهمة ارباك المجلس والنهضة هدفا لها.

تقاطع هذه العناصر والتجاذب الحاد بين كتل البرلمان افرز في النهاية مشهدا فرجويا سمته الكبرى الفوضى صلب المجلس وعجز المؤسسة على القيام بدورها، انطباع بحثت الأغلبية البرلمانية عن تغييره باستحضار ارقام ونسب تبين ان البرلمان حقق في سنة ونصف الكثير ونظر في قوانين مهمة اكثر مما قام به البرلمان السابق، لكن هذه المحاولات لم تجد مقبولية.

رفض التأثر بخطاب رئاسة البرلمان القائم على ان ما يحدث في المجلس امر طبيعي ومن سمات الديمقراطية، مرده ان لا مقبولية للمجلس ونوابه بشكل عام لدى جزء هام من الراي العام الي يحافظ على بساطة قراءته واختزال المشهد وازمات البلاد في البرلمان. اختزال اثر على مدى تقبل المؤسسة التشريعية وانعكس على مشروعيتها، اذ انه وبعد سنة واشهر قليلة من الانتخابات تعكس نتائج سبر الاراء بونا بين الشارع الذي يتحرك وفق زمن سياسي واقعي وبين البرلمان الذي لازال مشدودا للزمن الانتخابي وزمن السياسي القانوني.

قطيعة بين الشارع ومؤسساته، وهنا ولّدت جل المؤسسات نوعا من النفور منها متفاوت الدراجات، مما جعل تونس «دولتين»، دولة الواقع ودولة القانون. اذ ان الواقع يكشف عن حراك غاضب في الشارع والجهات، على غرار امس الذي شهد تحركا احتجاجيا دعا اليه الاتحاد العام التونسي للشغل والكتلة الديمقراطية ومنظمات وطنية ضد خطاب العنف والكراهية ضد النساء والخصوم السياسين الصادر من قاعة الجلسة المجلس عن نواب الائتلاف.

احتجاج امام البرلمان وغضب في الجهات على غرار قفصة التي اقتحم المجتجون فيها قاعة انعقاد اشغال اجتماع الوفد الحكومي بممثلي الجهة للبحث عن حلول تنهى الاحتقان، دون اغفال الاعلان عن الاضراب العام في صفاقس من قبل اتحاد الشغل الذي اعلن عن اضراب سياسي ليس مطلبيا اجتماعيا.

وضع عام سمته الاحتقان والاحتجاجات المطالبة بالتنمية والشغل يمثل حقيقة المشهد وجزءا من ما يمكن ان يعتبر «الدولة الواقع» التي تشكل وقائعها من الازمات الحادة التي تعيشها مقابل زمن سياسي انتخابي قانوني، سمته التشتت وصراع الكل ضد الكل، وهو ما يكشفه البرلمان عن نفسه وما يطبعه في الاذهان من صورة باتت سائدة.
مناخ جعل البرلمان وباقي مؤسسات الحكم الدستورية تعيش في زمنها الخاص محدثة قطيعة بينها وبين الشارع الذي بلغ عشرية الثورة وقد امتلأ صدره بالغضب والحنق على الطبقة السياسية التقليدية اي الاحزاب واساسا احزاب الحكم وحركة النهضة.

غضب جعل البرلمان محاصرا لا مقبولية ولا مشروعية له لدى جزء من الشارع وان كانت له شرعية الصندوق والقانون، وهو ما يصنع بدوره ازمة اضافية تخفي كل الازمات، وهو ما نعيش على وقعه اليوم اذ ان البرلمان بات الشجرة التي تحجب الغاب، فازمته حجبت البقية وبات قبلة الغاضبين. مما اثر على قدرته وقدرة باقي المنظومة السياسية على استدراك واعادة نحت صورة جديدة، وهو ما قد يعنى ان قدرة هذه المؤسسات على الصمود تتضاءل في ظل تواصل اخفاقه في كسر القطيعة بينه وبين الشارع الذي صنف المنظومة السياسية برمتها في خانة «الفشل والسوء» والأسوأ فيها هو المجلس.

تصنيف تنكره الاغلبية البرلمانية التي تعتبره غير واقعي وبل وتعتبره جزءا من «مؤامرة» ضدها، فخطاب الدفاع عن البرلمان بدل أن ينطلق من الاقرار بان هناك واقعا فرض نفسه على الجميع وهو ان المؤسسة في حالة فشل طالما استمر التجاذب الحاد صلبها والذي يغذيه تواجد الغنوشي في رئاسة البرلمان.

تواجد هو مصدر من مصادر الازمة في البرلمان ولكن الاغلبية البرلمانية تنكر الامر وتعمل على ايجاد مخارج اخرى تضمن استمراره بتركيبته الحالية وتمنحه ادوارا وصلاحيات اوسع في المشهد تكون ضمن اطار الشرعية الانتخابية وما يفرزه الصندوق، اي انها تكرس القطيعة اكثر وتنقل الازمة الى مربع اخر يتعلق بشرعية ومشروعية البرلمان، وهل ان الشرعية الانتخابية كفيلة لضمان المشروعية السياسية والشعبية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115