أحد في صحتها الظاهرة، ولكنّها تستبطن خطأ جذريا، قد لا يكون مقصودا، لو أولناها باعتبار أن رئيس الجمهورية هو وحده الذي يمثل السلطة في البلاد بل حتى لو قصرنا هذه السلطة على الجهاز التنفيذي فحسب ..
دستورنا ،على هناته الواقعية أو المتوهمة، واضح وصريح إذ يقول في الباب الرابع «السلطة التنفيذية» وفي أول فصل لهذا الباب وهو الفصل 71 «يمارس السلطة التنفيذية رئيس الجمهورية وحكومة يرأسها رئيس الحكومة» وهذا الفصل الممهد للسلطة التنفيذية يأتي قبل القسم الأول المخصص لرئيس الجمهورية ..
وبالطبع هنالك السلطة التشريعية والتي يمارسها الشعب عبر ممثليه بمجلس نواب الشعب أو عن طريق الاستفتاء وفق الفصل 50، وكذلك السلطة القضائية والتي يمارسها في الدستور التونسي المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية وقد أضفنا إلى هذه السلط الثلاث التقليدية سلطة رابعة وهي السلطة المحلية (بلديات وجهات وأقاليم) القائمة على أساس اللامركزية وما يمكن أن نسميه أيضا بسلطة خامسة وهي تلك الصلاحيات المفوضة للهيئات الدستورية المستقلة الخمس.
قد نعتبر أن السلطة مشتتة أكثر من اللزوم وأنه ينبغي إصلاح النظام السياسي في اتجاه مركزة أكثر تضمن النجاعة والعقلانية دون أن تضرب مبدأ الديمقراطية التشاركية التي قام عليها الدستور ..
ولكن مهما كانت الإصلاحات المزمع إدخالها فلن تتمركز السلطة في يد جهة واحدة أيا كانت الشرعية الانتخابية التي تتمتع بها ..
نقول كل هذا للتنبيه إلى خطر داهم في هذه الأيام ونحن نشاهد التواتر السريع لعناصره وهو السعي لنزع المشروعية عن كل مكونات السلطة في البلاد تحت شعار «دولة واحدة ورئيس دولة واحد» .
ما حصل يوم أول أمس بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة خطير للغاية لأنّ التقزيم المتعمد لسلطة دستورية قائمة يقع على عاتقها الاضطلاع بالدور الأهم في حياة الناس لا يستفيد منه بأي حال من الأحوال رئيس الجمهورية ولا البلاد وذلك بغض النظر عن مضمون الموضوع وهو تعيين بعض رجالات بن علي كمستشارين لرئيس الحكومة إذ المهم هنا هو شكل العلاقة ونوعيتها بين رأسي السلطة التنفيذية من جهة وكذلك اتهام رئيس الدولة أشخاصا بعينهم بالإجرام في حق البلاد دون التذكير بالمبدإ الدستوري القائم على قرينة البراءة والمتضمن في الفصل 27 «المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة تكفل له فيها جميع ضمانات الدفاع في أطوار التتبع والمحاكمة» هو كذلك افتئات على السلطة القضائية.
ففي لحظات معدودات قزم رئيس الدولة إلى الأقصى دور وهيبة رئيس الحكومة وانتصب حاكما بدل القضاء ..
قد يعجب هذا التصرف الكثيرين إذ يرون فيه نوعا من استعادة عدل وصرامة عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين .. ولكنّنا في دولة يحكمها دستور قائم على توزيع السلطة بين مؤسسات منتخبة لا على شخص يحكم البلاد لوحده مهما كانت استقامته أو نزاهته أو حتى استثنائيته .
قد يعتقد بعضنا كذلك أن جل مؤسسات السلطة فاسدة أو مخترقة من اللوبيات وبالتالي فلا ضرر من تقزيمها وتحجيمها بل والإطاحة بها ومنح الرئيس المنتخب مهمة تطهيرها كلها من حكومة وبرلمان وقضاء وبلديات ..
ولكن هذه الأمنية مدمرة للبلاد لا فقط للمؤسسات فلا يذهبنّ في ذهن أحد أن كل المكونات السياسية والاجتماعية والفكرية لتونس ستقبل اليوم بحكم الزعيم الفرد الملهم المنزه عن الخطإ المحصّن من بطانة السوء، وما يخشى هو أن تدفع البلاد إلى أتون حرب باردة بين مختلف مكونات السلطة فيها فتنشغل كل أجنحتها بحبك الهجومات والهجومات المعاكسة ضد بعضها البعض بدلا من التنسيق والتعاون والتشاور بينها من أجل حل الأزمات واقتراح الحلول وإنتاج التصورات لتونس أفضل وأقوى وأكثر مناعة .
التدارك مازال ممكنا شرط التطبيق الحرفي والنزيه للدستور واحترام مكونات السلطة لبعضها البعض وقبولها بالعمل سويا للصالح العام بغض النظر عن العلاقات الشخصية والحسابات السياسوية .