محملين بخبرة استثنائية ، قد تغيّر اتجاهاتهم القيمية كما قد تأثر على التركيبة النفسية، فالعالم خبر عبر تاريخه مخلفات «الاوبئة» التي نبشت وأفضت الى علم يعرف بـ«سيكولوجا الاوبئة».
في التاريخ علقت بعض التجارب في الضمير الجمعي كالطاعون / «الموت الأسود» أو الانفلونزا الاسبانية او الكوليرا، اوبئة خاضها الانسان كما خاض الحروب وانتهى اثرها الى تغيرات جذرية في نمط حياته وقيمه وأفكاره. تجربة لاحظ علماء النفس الاجتماعي وعلماء الاجتماع ، انها وان اختلفت ازمنتها وأنواعها فأن أنماطا سلوكية ونفسية جماعية ارتبطت بها، أي بأوقات الأوبئة،التي تمت دراستها لمعرفة أنماط استجابات المجتمعات خلال أوقات انتشارها، ضمن ما بات يعرف بـ»سيكولوجيا الأوبئة Epidemic Psychology».
ليتضح وفق الدراسات ان سلوك المجتمعات مع تفشي الأوبئة وتأثيرها عليها يتغير تحت وقع الخوف الجماعي، والتفسيرات المرتبطة بأسباب هذه المعاناة ، و موجة من التناقضات القيمية، وسلوكيات واستراتيجيات لمواجهة الوباء. اوبئة هي بمثابة الأمراض “الجديدة”، على غرار الكورونا المستجد/ الكوفيد19، الذي لا يوجد الى اليوم علاج له او لقاح.مما يعنى ان التداعيات ستستمر الى غاية الوصول الى علاج.
في انتظار هذا العلاج، سجل في تونس انماط تطرقت اليها «سيكولوجيا الاوبئة» ومنظريها بشكل جلي، سواء في الاجتهادات الفردية والاجتماعية، والممارسات غير منطقية ، التي يحدد ملامحها «شوتز» عالم الاجتماع في «العقلانية الهشة» وهي تنسف ما يعتبر اسس علم الاقتصاد «عقلانية» الانسان واتخاذه لقرارات منطقية.
«شوتز» يؤكد أن هذه «العقلانية الهشة» هي الروتين الذي يتحكم في الحياة اليومية في الازمنة الطبيعية ، روتين تم اختباره من قبل ويشكل واقع الحياة المشتركة موفر معطيات وحلول جاهزة تصبح غير ذات نفع خارج هذا الروتين، ليتشكل «التهديد» ومنه تنطلق موجات من الفزع تُغيّر الممارسات اليومية.
تغيير تحيله «سيكولوجيا الأوبئة» الى الطبيعة المزدوجة للسلوك الإنساني ففي الأوقات الطبيعية، يتمكن غالبية البشر من الحفاظ على قدر من العقلانية بطريقة أو بأخرى، غير أنه في الأزمات تأخذ اللاعقلانية بزمام الأمور، ويدفع الخوف والارتياب نحو سلوكيات متناقضة غير منطقية ليستعيد الفرد نمطً حياة تحركها المشاعر والاحتياجات البدائية تنتهى بالسيطر على الفرد تمامًا، منها غريزة البقاء.
وتتغذى اللاعقلانية على نفسها وتتضاعف لتصل بنا الى الانهيار، أمثلة ذلك في الأزمة الراهنة هلع الشراء، منع الدفن، عدم التقييد بالإجراءات واحترام الحجر الخ...
هذه السلوكيات تؤسس لغيرها وهي تشمل عيش الفرد انعدام اليقين Uncertainty المرتبط باحتمالات إصابته بالمرض من عدمه مسببة في عبئ ثقيل مرتبط بـ«المجهول The Unknown» ليتصاعد الخوف والقلق الذي يصيب المجتمع بدرجات ويجبره على العيش في «خوف» من الاصابة او فقدان أحد من المحيطين به. خوف يتعاظم كلما طالت فترة انتشار الوباء، ومع تعاظمه يزداد الضغط على الفرد والمجتمع.
ضغط يستفيد من «الحداثة»، المعلومات المتوفرة عن الفيروس وسهولة انتشاره ونسب الوفايات الخ.. تعزّز المخاوف وحدة القلق العام اللذين يتحوّلان الى سلوكيات غير منطقية تمهد لما يصفه هوبز «حرب الكل ضد الكل».
حرب من أدواتها اعادة إنتاج التراث الشعبي والفولكلور، والاستنجاد بمخزون ثقافي من معتقدات ووصفات وحكم و اساسا «الطب التقليدي» وهذا تجلى في تونس باعتبار الثوم والبصل وبعض الاعشاب شافية من الفيروس وتقي منه لتنطلق الشراءات ضمن حلقة من السلوكيات غير العقلانية التي تتضمن ايضا الاشاعات ونظرية المؤامرة، وفق ما يشرحه «فرانك سنودين» في كتابه «الأوبئة والمجتمع» او في «سيكولوجية الأوبئة” لـ”ستيفن تايلور».
حيث تبرز نظرية المؤامرة وأن الوباء من صنع الانسان او ان الدولة تتجه للتضحية بجزء من شعبها الخ... اذ ان هذه الفترة هي بيئة خصبة لبروز نظرية المؤامرة بين الشعوب وبعضها وبين الدول. مثال ذلك الاتهامات المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية.
لكن في زمن الأزمات والاوبئة، تقل المسافة اين الفرد والمجتمع، بترابط مصيهما الذي يولد نوعٌ من الشعور الجمعي والتضامن بين أعضاء المجتمع لتحفزهم على خلق أفكار ومبادرات للمساعدة، ونشهد في تونس كما من المبادرات الفردية او الجماعية سواء لمعاضدة جهود المنظومة الصحية بتجهيزات او ادوات ولوازم طبية او بموجة مساندة لمحدودي الدخل.