حول قرار الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين المتعلـق بالمجلس الأعلى للقضاء: رئيس الجمهورية بين الهيئة والمجلس

فاضل موسى

« قررت الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين إحالة مشروع القانون الأساسي المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء في صيغته المعتمدة من الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب المنعقدة يوم الأربعاء 23 مارس 2016 إلى رئيس الجمهورية وذلك لعدم حصول

الأغلبية المطلقة لاتخاذ قرار في الغرض طبق ما يقتضيه القانون عدد 14 لسنة 2014 المؤرخ في 18 أفريل 2014 المتعلق بالهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين».( قرار عدد 2016/1 (صيغة معدلة 2) بتـاريخ 22 أفريـل 2016).

الحالة الثالثة
وبهذا القرار الأول من نوعه أنشأت الهيئة حالة ثالثة غير مذكورة في قانونها. فالحالتان الوحيدتان المذكورتان هي إما اتخاذ قرار بالدستورية أو بعدم الدستورية، أوإحالة مشروع القانون إلى رئيس الجمهورية فور انقضاء أجل 17 يوما على الأقصى، المقرر بالفصل 18، دون إصدار الهيئة قرارها.

وقد سبق للهيئة أن وجدت نفسها في وضعية شبيهة بهذه، بمناسبة الطعن عدد1 بعدم دستورية الفصل 6 من مشروع القانون الانتخابي وكان ذلك في 20 ماي 2014. ولم يتم ذلك في شكل قرار وإنما «إحالة ملف الطعن إلى رئيس الجمهورية طبقا لأحكام الفصل 23 فقرة أخيرة من القانون عدد 14 المتعلق بالهيئة» متجنبة إنشاء حالة جديدة غير واردة في النص. لكن في الواقع الإحالة تمت آنذاك لا كما بررته الهيئة على أساس تجاوز الأجل الذي كان بالإمكان تمديده بأسبوع ، وإنما على أساس تساوي عدد الأصوات أو بالتوافق لتجنب الهيئة الاصداع بموقف في مسألة حساسة وهي الحق الانتخابي لرجال الأمن والعسكريين. وقد سبق انتقاد هذا الموقف بشدة وحتى وصفه بنكران للعدالة («الأمن الدستوري والأمن الوطني» جريدة المغرب بتاريخ 31 ماي 2014)

والقرار الأخير عدد 2016/1، موضوع هذا التعليق الموجز، في تقديري مخالف لقانون الهيئة. تقول الهيئة في قرارها أنها لم تتمكن كما هو مطلوب في الفصل 21 من الحصول على الأغلبية المطلقة لأعضائها وعددهم ستة. لكن وكما أسلفنا في المقال السابق المذكور، تساوي الأصوات بين الأعضاء الستة في غياب التنصيص على أن صوت الرئيس مرجح يفيد أن الأغلبية المطلقة لم تحصل مما يقتضي إصدار قرار بالدستورية وتعليله والكشف عن المستندات وليس الإحالة على رئيس الجمهورية دون نظر وهذا ليس برأيي الشخصي أو تأويل مني ولا اقتناعا مني بوجاهته أو بأن الصيغة الجديدة المعدلة أصبحت دستورية.

الضبابية
ما أقوله هو ما قلته منذ سنتين في المقال المذكور آنفا. وأكرر أن المشرع أراد أن يحصن القوانين حتى لا يقع الإلغاء إلا إذا تأكد أن أغلبية تامة الوضوح تحققت علما أن الأغلبية المطلوبة في معنى النص هي أربعة على ستة على الأقل. وفي الحقيقة عدم ذكر القانون أن صوت الرئيس مرجح ليس من باب السهو وليس بخطأ وإنما هو اختيار مقصود للأغلبية آنذاك المبني على فكرة أن الشك ينتفع به مجلس منتخب ولا هيئة معينة لا سيما وأنها لم تتمكن من الحسم بصفة جلية في إقرار عدم دستورية مشروع قانون.
إلا أن الهيئة رأت عكس هذا واعتبرت أن التساوي في الأصوات لا يمكنها من الحكم لا بالدستورية ولا بعدم الدستورية، وان انجر عن ذلك نكران للعدالة، والمسؤول هو المشرع كما ورد في بعض التصريحات.

ونتيجة لذلك لا أحد يعلم اليوم تعليل الذين اعتبروا أن النص المعدل أصبح متلائما مع الدستور و تعليل الذين اعتبروا أن النص غير متلائم مع الدستور داخل الهيئة. ولا أحد يعلم هل أن الخلاف تعلق وللمرة الثالثة بصحة الإجراءات المعتمدة أم بصحة تعديلات الفصول التسعة الملغاة. علما أن الهيئة أرجعت للمجلس المشروع مرتين لعدم احترام الإجراءات دون النظر في التعديلات المدخلة على الفصول التسعة أو مآلها بعد أن تم إلغاء بعضها وإضافة فصول أخرى استوعبت بعضها الآخر من طرف الجلسة العامة بمجلس نواب

الشعب.كما أنه يتعذر معرفة هل أن قانون 23 مارس أي الأخير بعد كل ما حصل إجراءا وأصلا تم فعلا مراقبته من كل النواحي الإجرائية والأصلية. والمرجح هو أن المسألة بقيت متعلقة بالإجراءات وهذا ما يبرز من اطلاعات القرار التي ركزت على هذا الجانب « وحيث تم عرض مشروع القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء لمداولة جديدة على مجلس نواب الشعب تطبيقا لقراري الهيئة عدد 2015/2 وعدد 2015/03 (صيغة معدلة) مثلما تم إشعار الهيئة بذلك ضمن مكتوب رئيس مجلس نـواب الشعب بتاريـخ 1 أفريل 2016 والذي يفيد من خلاله أن المداولة الأخيرة بتاريخ 23 مارس 2016 تعلّقت بالصيغة الأصلية لمشروع الحكومة المؤرخ في 12 مارس 2015 مرفقة بالتّعديلات المقدمة من قبل النّواب وأن المشروع تمت المصادقة عليه بالأغلبية المشترطة بالدستور للمصادقة على القوانين الأساسية وطبقا لإجراءات النّظام الداخلي.»

شبهة دستورية القانون
وبقرارها هذا وبإحالة الملف لرئيس الجمهورية زرعت الهيئة شبهة حقيقية في دستورية هذا القانون البالغ الأهمية إذ هو ركيزة استقلال السلطة القضائية، هذه الشبهة التي سترافقه وتؤبد التشكيك في مشروعية المجلس الأعلى للقضاء الذي أردناه مؤسسة نموذجية لا يشكك أحد في دستوريتها.

والتدارك الوحيد الذي بقي ممكنا موكول لرئيس الجمهورية الذي بعد الإحالة كان، عملا بالفصل 23، مخيرا بين الختم والنشر أو الرد (الفيتو) إلى مجلس نواب الشعب للمصادقة عليه مجددا لكن بأغلبية 3/ 5 . ورأى الرئيس بعد الاستماع أن الأفضل هو ختمه للقانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 المؤِرخ في 28 أفريل 2016 المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، ونشره مرفقا بقرار الهيئة، في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عـــدد 35 بتاريخ 29 أفريل 2016.
ان تأويل الهيئة لقانونها مكنها من تبليغ رسالة ومن مخرج. أما المخرج فهو رمي الكرة في ملعب الرئيس لعجزها عن الإفصاح بموقف واضح في ظل غموض قانونها ولسان حالها يقول «سامح الله المشرع». أما الرسالة فهي أن مشروع القانون المعدل مشبوه دستوريا، وبالتالي لا يمكن تأويل قرارها تراجعا في موقفها السابق.

الرئيس وهو الضامن للدستور أدرك أن شبهة دستورية القانون حقيقية وأن مسؤوليته كبيرة مما جعله يستشير الخبراء حتى يطمئن قلبه. لكن المسألة في الحقيقة ليست بقانونية بعد قرار الفصل البات الصادر عن الهيئة، وإنما سياسية بالدرجة الأولى. معنى ذلك هل يتجه استعمال الرئيس آلية الرد المسموح له به مع تبعاته من إطالة مسار استكمال المؤسسات الدستورية وتكبيل المجلس والبلاد بمشكل إضافي في هذا الظرف الخ. أم هل من واجبه أمام قانون بهذه الدرجة من الأهمية والمشبوه في دستوريته رده للمجلس ورمي الكرة في ملعبه وعليه أن يتحمل مسؤوليته ويطمئن قلبه بعد ممارسته لآخر وسيلة مكنه منها القانون.

المجلس من ناحيته لا أحد يشك في أنه مستعد بكل أطيافه إن رد له القانون أن يصادق عليه لا بـ 3/ 5 ولا بالتوافق بل حتى بالإجماع كما صادق عليه في المرتين الأخيرتين رغم قراري الهيئة. فالنواب ضاقوا ذرعا بالهيئة وأصبحوا مستائين مما يعتبرونه تغول الهيئة عليهم بقطع النظر عن انتماءاتهم ولن يتأخروا عن اغتنام الفرصة لإيقافها عند حدودها. وهذا الموقف المعلن من العديد مؤسف ويدل وأنه لم يقع استيعاب وفهم معنى دولة القانون ودور مراقبة دستورية القوانين الذي هو دور وقائي ضد تغول المجلس التشريعي وخرقه للدستور كما حصل في مشروع قانون المحكمة الدستورية ذاتها، كما أن المؤسستين ليستا في تنافس وإنما في تفاعل وحوار.

إن السبيل الذي بقي اليوم للتدارك ولإبعاد الشبهة في دستورية قانون المجلس الأعلى للقضاء هو آلية الدفع بعدم دستوريته بمناسبة الطعن مستقبلا في القرارات المتصلة به والذي قد يمكن القضاء من إرجاعه من جديد أمام مجلس نواب الشعب عبر المحكمة الدستورية وهي جزء من السلطة القضائية.

وبهذا ينزل الستار اليوم على المشهد الأول لقانون المجلس الأعلى للقضاء الذي قضي أمره بسكوت للهيئة وهو بمثابة رسالة و بترصد بمثابة توعد من المجلس وختم ونشر للقانون من الرئيس وكأن لسان حاله يقول بيدي لا بيد عمرو بدون رد لانه موش وقته.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115