كل قارئ موضوعي للسياسة التونسية يخرج بنتيجة واحدة من الانتخابات العامة الأخيرة : تراجع كبير للحركة الإسلامية التي خسرت في ثماني سنوات حوالي ثلثي ناخبيها (قرابة تسعمائة ألف صوت) وحققت أسوأ نتائجها في سنة 2019 بأقل من %13 في الرئاسية واقل من %20 في التشريعية ،ورغم ذلك تصر النهضة على تجاهل هذه الرسالة القوية ولا تريد أن ترى إلا انتصارها النسبي على منافسين كاد أن يندثر أهمهم على الإطلاق ، ذلك الحزب – نداء تونس – الذي هزمها ذات مرة في خريف 2014..
لقد قررت الحركة الإسلامية أن تغض البصر وبصفة كلية عن تراجعها الكبير من انتخابات إلى أخرى وألا ترى فقط سوى هذا التقدم النسبي على خصومها وهي تريد أن تحوله اليوم الى انتصار سياسي يضاهي ذاك الذي حصلت عليه بمناسبة انتصارها الكبير الوحيد سنة 2011.
تريد حركة النهضة أن تنسينا هزيمتها المدوية في الرئاسية والتي لم يمر عنها سوى شهر وأن تحول الانتصار الساحق لقيس سعيد، رئيس الجمهورية المنتخب،إلى انتصار لها تضيفه إلى تقدمها النسبي في التشريعية وتؤسس عليه للمطالبة بحقها في تشكيل حكومة وفي ترؤسها وفي أن هذا «الحق» يعود - وفق نظامها الداخلي - إلى رئيسها، أهم شخصية سياسية في تونس وفق رئيس مجلس شوراها،وانه لا اقل بالنسبة له من احد منصبين: رئاسة الحكومة أو رئاسة مجلس نواب الشعب، وان هذا «الحق» يعود إليه بصفة طبيعية مادامت حركة النهضة قد «انتصرت» في الانتخابات التشريعية ..
بعبارة أخرى سيكون «تنازل» راشد الغنوشي عن رئاسة الحكومة اكبر تضحية تقدم عليها حركة النهضة مقابل قبول حلفائها المفترضين بترؤس «الشيخ» لمجلس نواب الشعب الجديد وعندما نعلم شبه التزامن بين ترشيح النهضة لشخصية لرئاسة الحكومة وتصويت الجلسة الافتتاحية لمجلس نواب الشعب الجديد على رئيسه..
يحدثنا البيان الأخير لمجلس الشورى لحركة النهضة عن «برنامج » يتضمن التوجهات الكبرى» و«الإجراءات في الآماد العاجلة والمتوسطة» ولكن إلى اليوم لا نجد أثرا لهذا البرنامج الا لو قلنا بأنه هو الذي قدمته حركة النهضة خلال حملتها الانتخابية والذي قد تريد أن تجعل منه نواة لبرنامج الحكم هذا ، والحال ان ما قدمته الحركة الإسلامية لا يعدو أن يكون إلاّ بعض الأفكار العامة لعل أهمها القول بضرورة العمل على محاربة التفاوت الجهوي ولكن دون توضيح التمويلات ومصادرها والأهداف المراد بلوغها والتحقيبات الزمنية الضرورية لذلك..
ثم ان هذا «البرنامج» لم يحظ بموافقة %80 من الناخبين ،فكيف سيصبح مركز التشاور والتفاوض ؟
تقول النهضة بأنها لا تريد حكومة «محاصصة» حزبية ولكن كل من يرفض رئاستها لهذه الحكومة إنما يريد «حصة» من الحكم ..؟!
لقد مر أسبوعان على الانتخابات التشريعية ويبدو أننا مازلنا في المناورات الأولى ولم ندخل بعد في صلب الموضوع،وبداية الطريق السالكة والحكيمة هو ان تقتنع حركة النهضة انها تفوقت ولاشك على بقية الأحزاب والائتلافات في الانتخابات التشريعية ولكنها لم تنتصر سياسيا فيها،عندها وعندها فقط يمكن ان تنجح مفاوضات تشكيل الحكومة والفائدة هي الاعتناء بمشاكل تونس الحقيقية لا لاقتسام كعكة وهمية .