تحليل اخباري: أمام لخبطة شاملة: التونسيون يدعون بحفظ تونس

في مفارقة ملفتة انشغل الرأي العام بشأنين من المفترض أن يكونا منفصلين وهما الشأن القضائي والشأن السياسي،

إلى درجة تسليم جانب كبير من المتابعين بحصول تداخل صارخ بين الشأنين في فترة حساسة جدّا.

و مردّ ٌ هذا الإنشغال يتمحور حول ملفي نبيل القروي المترشح الثاني للدورة الثانية للإنتخابات الرئاسية السابقة لأوانها ،و ملف ما أصبح يعرف بملف الجهاز السرّي و ما تبعه من تداعيات أدت إلى تعطّل مرفق القضاء لأيام ،ثم العودة بحذر.

هذا الملفان تزامنا و تفاعلا مع حملة الانتخابات التشريعية المنتظرة ليوم الاحد المقبل ، و مع الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية الّتي أعلن عن تنظيمها يوم 13 أكتوبر الجاري، و هما استحقاقان فرضت ظروفهما بأن يجريا بنسق باهت في عمليات لولبية تبحث فيها الأطراف المتنافسة عن خطاب قادر على إقناعهم أولا ،قبل اقناع الناخبين به.

و يعود سبب الدوران في حلقات مفرغة ، إلى عنصر المفاجأة الّذي هز العديد من الأحزاب و التشكيلات السياسية بخصوص نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها ، رغم علمها المسبق بنتائج سبر الآراء منذ مدّة ، و لكنها كانت لا تصدّقها ، و خيّرت صم آذانها و التحرك خارج الحلبة.

هذه التشكيلات السياسية، كانت لا تنتبه إلى رأي و مواقف المنتقدين لها و تعتبرهم دخلاء عليها، و لا تسمع إلاّ صوتها، و بقت منغلقة على نفسها وسط حزام ضيق ، لذلك لم نسمع لها تقييما لما حصل و نراها سائرة في نفس المنهج بلا دليل و لا بوصلة.

و رغم «اللّطخة» الّتي تلقتها هذه التشكيلات، فإن المحلّلين و المتمركزين في أغلب المنابر الإعلامية، يواصلون تكرار نفس الخطب المتشنجة و كأنهم غير معنيين بموقف الرأي العام من المنظومة السائدة و لم يستخلصوا أي درس ممّا حدث ..

فبخصوص ملف االقروي كنا توقعنا في افتتاحية 6 سبتمبر أي قبل أسبوع من الموعد الانتخابي تحت عنوان «اللّي شبكها يخلصها» أنه سيحصل إشكال عندما نجد أحد المترشحين «في وضعية بين منزلتين: موقوف ومحل تتبع جزائي ، من جهة ، و من جهة أخرى، غير ممنوع من ممارسة حقوق المدنية و السياسية ، مبدئيا ، و لكنه في نفس الوقت يخضع لأحكام نظام السجون والإصلاح الّذي يمتّعه بحقوق المسلوب من الحرية . « وأشرنا إلى أن » الحالة إن إستمرت على ما هي عليه ، فقد تكون تونس إزاء فائز في الدورة الأولى للإنتخابات الرئاسية ،في المركز الأوّل أو الثاني، أو فائز في النهاية يتعذّر عليه ممارسة مهامه ، فتُملي الضرورة مهزلة جديدة يصعب تصور مخرجاتها»

فالقروي ما يزال إذن ،خاضعا إلى مقتضيات قانون الإنتخابات والإستفتاء في الدورة الثانية الّتي من شروطها التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، و هو ما يعني أنه ليس تحت مفعول أي عقوبة أصلية تكميلية طبق مقتضيات المجلة الجزائية و القوانين الخاصّة الأخرى لذلك يواصل أعضاء حزب القروي وأتباعه حملتهم التشريعية ، و يواصلون حملتهم الرئاسية إلى اليوم في غيابه ،و هي وضعية لم يفترضها المشرع التونسي،بإعتباره لم يفترض كيفية التعامل مع من يترشح و هو محل تتبع جزائي و لو بخصوص نوع خاص من الجرائم. و هذا الخيار التشريعي لم يأت من فراغ ، بل أن مردّه ، بدعة آلية «التوافق» الّتي تمّ اعتمادها حتى في وضع نصوص دستورية و في سن القانون الّذي ينظم الانتخابات والإستفتاء .

هذه الآلية أخضعت التشريعات الأساسية إلى رؤية تؤسّس لنظام برلماني يحجم دور رئيس الجمهورية بدعوى تجنب مساوي تجربة النظام الرئاسي المطلق . و لكن هذا التبرير الظاهر يخفي خلفية عقائدية لحزب النهضة و السائرين في ركابه – إقتناعا أو جهلا - لا تؤمن بقيم الجمهورية و الدولة الحديثة ، و إنّما تضع ضمن استراتجيتها تفكيك الدولة و خلق كيانات و هيئات و هياكل ، بديلة ، تستحوذ على جوانب من السلطة تنزعها من الدولة . هذه الاسترتيجية ولّدت ما نحن فيه ، بما نشهده من ضعف للدولة و توزع سلطة القرار، بالشكل الّذي يعطّل و يجمّد تنشئة الفعل أو التصرف فيه . وهي استراتيجية انقلبت حتى على واضعيها.

بسبب هذه الاستراتيجية وجدت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والاستفتاء نفسها ، تتخبّط في الفرضيات و تبحث عمن يتفاعل معها لدى السلطة القضائية و حتى لدى رئاسة الجمهورية الّتي ليس من صلاحيتها التدّخل في طور التحقيق والإستقراء ، بل أن الهيئة العليا ، لا تملك الصفة للقيام بذلك، بإعتبار أن الصفة الّتي تخوّل التظلم أو الطعن وإلتماس أي طلب تعود لصاحب المصلحة نفسه أو هيئة الدّفاع عنه. كما أصبحت الهيئة تمارس الضغط المعنوي بإستباق التصريح بوجود فرضيات لم تطرح ،كالقول بجدية الطعن في النتائج المنتظرة للانتخابات الرئاسية للإخلال بمبدأ تكافؤ الفرص.

و ما زاد الأمر تعقيدا أن القضاء بدا مفتقدا لخيوط المسك بمجريات ملف الجهاز السري ، الّذي دخل بسبه في مطبّات جديدة ، جعله يجابه واجهتين في نفس الوقت، إزاء الملفين المشار إليهما ،إلى درجة أنه أصبح مسكونا بهاجس الخوف من اتيان الشيء و نقيضه في الملف الواحد ،و هو ما يكون قد دفعه إلى التهدئة في ملف الجهاز السري ،و يحاول أن يركز على ملف القروي ،باتخاذ دائرة الاتهام قرار رفض الطعن في قرار قاضي التحقيق،في جوّ مشحون و مضطرب عاشته أمس دائرة القرار .

فالمناخ العام الّذي تدور فيه الاستحقاقات التشريعية والدورة الرئاسية الثانية ، على غاية كبيرة من الاضطراب و الضبابية و «التخبّط» ،يكشف الفزع الّذي انتاب القوى السياسية الّتي خسرت الإستحقاق الأوّل ، و قدّ أدى هلعها إلى البحث عن منافذ حفظ ماء الوجه بكل الطرق ، بل هناك مخاوف جدية من إدخال البلاد في فوضى عارمة ،و هو ما نلمسه من التهديدات المبطنة من هذا الطرف أو ذاك .

لذلك بقت الانتخابات التشريعية حلبة أخيرة لتبيّن مستقبل المنظومة القديمة ، و كاشفة لمؤشرات المستقبل القريب ، و لكنها تبقى محفوفة بمخاطر ردود الفعل مما سيحصل من نتائج ، تجعل التونسيين، يضعون أيديهم على قلوبهم كما يقال ، داعين في السر والعلن ، بحفظ تونس.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115