إلاّ أن يقرّ بحجم الانفصام في سلوك التونسيين،وتباين مواقفهم، وردود أفعالهم. فبعد أن أفاض هؤلاء في التعبير عن مشاعرهم التي تنوس بين الإحساس بالحزن، والشعور بالفخر والاعتزاز بأنّهم ينتمون إلى بلد انجز ثورة وحقّق ‘الاستثناء’ ها هم اليوم يلعنون الديمقراطية التي سمحت بتهافت من هبّ ودبّ على تقديم الترشّحات لمنصب يفترض أن يكون خاصّا بأهل الكفاية،والكياسة ،والعدالة، والفصاحة... وبين سردية ترسّخ «الشوفينية»، وأخرى تلعن الزمان وتجسّد كره الذات مسافة تجعلنا نتساءل: كيف يتمثّل التونسيون أنفسهم، وتاريخهم السياسيّ وهل وصلوا إلى مرحلة النضج السياسيّ التي تجعلهم يدركون بالفعل إكراهات اللحظة المفصليّة التي نمرّ بها؟
لطالما تذمّر التونسيون من الزعيم الأوحد، والحزب الواحد، والرأي الواحد، وتجميع السلط بيد المستبدّ وما أكثر الذين برّروا أخطاءهم السياسية بأنّ المناخ الاستبدادي حرمهم من «مراكمة التجارب، وتحقيق التعدديّة السياسيّة...» ولكن ها أنّ التونسيين يبدون استياء شديدا بسبب فتح باب الترشحات على مصراعيه، وها هم لا ينفكّون عن إظهار الاستهزاء والسخرية من الشخصيات التي قدّمت ملفّاتها. ولكن أليس من حقّ كلّ التونسيين والتونسيات الذين توفّرت فيهم الشروط حسب الفصل 72 من الدستور أن يترشّحوا لمنصب رئيس الجمهوريّة؟ أليس الاحتكام إلى المعايير التي ضبطتها الهيئة المكلّفة بالفرز هو الفيصل ؟
ينكبّ التونسيون خلال هذه الأسابيع على «فضح» الخصوم وإبراز مثالبهم، وتشويه صورهم، وتداول الأخبار الكاذبة التي دبرت ذات ليل، ويزعمون أّنّهم يساعدون غيرهم حتى لا ينخدعوا وينتخبوا الفاسقين والفاسدين و... ولكن أليس التدخّل في الحياة الشخصيّة للمترشحين متعارضا مع ما ورد في الدستور من مواد ضامنة لحماية الحريات الفردية؟ أليس الشتم والسبّ والثلب علامة دالة على وجود حالة إفراط في ممارسة خطاب الكراهية والعنف، من جهة، وعلى عدم القدرة على استيعاب المبادئ التي تقوم عليها المنافسة السياسية، من جهة أخرى؟
يتساءل عدد من التونسيين عن غياب «الوفرة» في المشاركة النسائيّة في الترشّح لمنصب رئيس الجمهوريّة فتونس «ولاّدة» و«نساء بلادي نساء ونصف»، و«المرأة التونسيّة كفاءة»... ولكنّهم لا يشيرون البتة إلى أنّ مناخ العنف يحول دون إقدام النساء على المشاركة السياسيّة؟ يكفي أن نقرأ التعليقات التي يبديها عدد من «السياسيين» حول عبير موسي، وليلى الهمامي، ونرمين صفر... حتى ندرك أنّ تحفيز التونسيات ليس دائما حجّة على دعم المشاركة السياسية للمرأة بل هو، في الغالب، مناسبة لعقد الولائم الذكوريّة احتفاء بالنساء. وعلى محراب السياسة تذبح هؤلاء وتتحوّلن إلى كبش فداء. فإلى متى يتواصل الاستخفاف بحقّ المواطنات في العمل السياسي؟
لا ينفكّ التونسيون عن استحضار نظريّة المؤامرة فكلّما تعثّر المسار الديمقراطي وّجهت أصابع الاتهام للبلدان التي تخشى من «عدوى التجربة الديمقراطية» وتضخّ الأموال في سبيل القضاء على هذه التجربة وهي في مهد تشكّلها ولكن أليس حريّا بنا في هذه التجربة الانتخابية الجديدة أن نتساءل عن دور «الماكينة» التونسية المحليّة في التشويش على المسار وتحويل الانتخابات من «عرس» للاحتفاء بالتجربة «الاستثنائية» إلى «نكبة» مريرة و«هزيمة» نكراء؟ من سمح لهذه الجحافل من الانتهازيين والمستثمرين في معاناة الناس والمتلاعبين بمصائر التونسيين من أن تنمو فتغدو سلطة تتباهى بأنّها صارت مستأسدة؟
من جعل الممارسات الديمقراطية تنحاز عن مسارها الذي يقتضي تكثيف النقاش حول البرامج والتجارب، والخبرات، والكفاءة ... لتغدو ديمقراطية عرض المشاعر والانفعالات؟ من مأسس الجهل، ونشر الشعوذة والدجل، وصادر العقلنة، وارتهن الأحلام؟ من أفرغ السردية الثورية 17 ديسمبر-14 جانفي من مضامينها وعبث بقيمها؟ من غيّب طموح الشباب والفتيات، والنساء والرجال الذين صدقوا أنّنا يمكن أن نحقّق الحلم؟