تونس تودع رئيسها: مات الباجي وبقي الوطن

«فلا عاش في تونس من خانها ولا عاش من ليس من جندها» والتونسيين اختاروا صبيحة أمس أن يكونوا جنود هذا الوطن،

اختاروا الالتزام بقيم الوطنية والديمقراطية اختاروا الانضباط والخشوع لتوديع رئيس الجمهورية الى مثواه الاخير، اختاروا ان يكونوا جند الوطن يرافقون رئيسهم ويودعونه بكل الحب يودعونهم وهم يرددون «عاشت تونس حرّة حرّة».
هنا تونس، تونس التي تودع رئيسها، تونس تودع رئيسها المنتخب في جنازة وطنية يملأها الخشوع والحب والاتفاق والسؤال «تونس لشكون بعدك يا البجبوج»؟ ، هنا تونس صبيحة السبت 27جويلية الشعب التونسي يودع محمد الباجي قايد السبسي رئيس الجمهورية التونسية في جنازة مهيبة.

تونسيون بكل الوانهم في وداع الرئيس
هنا العاصمة هنا رفعت الرايات الوطنية عاليا ترفرف، هنا اجتمع التونسيون باختلاف مشاربهم حول تونس اجتمعوا باختلاف مشاريعهم وأفكارهم وأعمارهم لتوديع رئيسهم، هنا شارع محمد الخامس فشارع الحبيب بورقيبة ثم شارع قرطاج والشوارع الفرعية المؤدية الى مقبرة الجلاز، الاف من الناس توافدوا منذ الصباح ورابضوا حدّ وصول موكب جثمان الرئيس الراحل، منذ الصباح وهم يرابضون منتظرين مرور موكبه لوداعه والهتاف باسم تونس باسم هذا الوطن الصامد دائما، توافدوا واكتسحوا كل الشوارع حاملين الرايات الوطنية وقمصان كتب فوقها «فبحيث تحيا تونس مرفقة بصورة الرئيس الراحل».
هنا تونس امنييون يحترمون المواطنين ويقدرون حبهم لرئيسهم، امنيون يوزعون قوارير الماء على الأطفال في ذلك الطقس الحار وآخرون اختاروا توجيه المواطنين الى شوارع اخرى دون استعمال للعنف او لكلمات نابية فقط استعملوا لغة الحوار في ذلك اليوم المهيب.

هنا صاحبة مطعم شعبي في شارع قرطاج تقسم للجميع وتطلب من «الزوالي» و «الى ماعندوش» ان يأكل ويطلب ما يريد مجانا على رحمة الرئيس التونسي باجي قايد السبسي، تردد عباراتهم ودموع تخنقها وهي تقول «كولوا بلاش، افطروا من عندي على رحمة رئيسنا».
صورة فيسفسائية تزين الشارع، اختلفت الملابس والأفكار والالوان، جنازة الرئيس وحّدت الجميع من السيدة العجوز بحليها الريفي وهي تضع لافتة كتب فوقها بالفرنسية «تحيا تونس» الى تلك السيدة التي تلبس فستانا قصيرا الى تلك التي تلبس لباس العمل حدّ التي لبست «الحجاب الشرعي كما يسمونه» جميعهنّ كنّ خاشعات جئن منذ الصباح لوداع الرئيس تتقدمهنّ تلك السيدة التي لبست الابيض ووضعت الراية الوطنية تاجا على رأسها بياض يعكس بياض قلب التونسي أمام وطنه بياض يقول أن السواد لا يليق بالمرأة التونسية فنحن بنات تونس لبؤات لا نعرف السواد ولا يليق بنا الحزن فقط يليق بنا الابيض الناصع كالذي تلبسه اغلب مودعات رئيس الجمهورية التونسية.
الشوارع المؤدية إلى مقبرة الجلاز بعثت فيها الحياة منذ التاسعة صباحا، تلك الشوارع الصامتة والفارغة في العادة بمناسبة العطلة أصبحت أمس خلية نحل، امّ تصطحب أطفالها «أريدهم ان يشاهدوا موكب رئيسنا الراحل، أريد لأطفالي أن يعرفوا معنى مدنية الدولة»، وأخرى تلبس ابنتها الراية الوطنية وتضعها على رأسها كما التاج، الأمهات اخترن اصطحاب أطفالهن لمشاهدة الحدث العظيم، العطلة الادارية لم تمنع المواطنين من النزول الى الشوارع وترديد النشيد الوطني والهتاف بحرية تونس و حياة شعبها وجنودها.

شمس حارة ووجيعة أكبر لكن تونس وحدت الجميع
حرارة الطقس والتأخير لم يمنعهم من مواصلة البقاء تحت الشمس او التوزع على أسطح العمارات القريبة وبعضهم تظلّل بالشجيرات المترامية حول المقبرة والشوارع حول المقبرة، حلقات نقاش في كل مكان، والحديث عن تونس واحتداد الآراء و الأفكار بين مؤييدي «نداء تونس» ومن سبق وان صوّت لمحمد المرزوقي واخرون يؤيدون احزاب وتكتلات اخرى ثم العودة من جديد الى التركيز في وداع رئيس الجمهورية التونسية و الاكتفاء بالقول «احنا ما نتفرقوش، حتى رئيس ما نجم يفرقنا خاطرنا توانسة، نختلف لكن لن تحدث الفرقة بيننا» كما قال احد الشباب قبل ان يرفع صوته ويغني «حماة الحمى يا حماة الحمى هلمّوا هلموّا لمجد الزمن» فيضيف صديقه «تونس حرة ابد الدهر».
هنا شارع قرطاج فنهج ام كلثوم وشارع المنصف باي وباب عليوة هنا جمع غفير من التونسيين تكبدوا مشقة الطريق وتحدوا حرارة الطقس ليشاركوا في جنازة وطنية لرئيس الجمهورية التونسية، لافتات كبرى لصور الرئيس الراحل وأخرى لتونسيين جاؤوا من القيروان والقصرين وسيدي بوزيد جاءوا لوداع الرئيس المنتخب آخر «العظماء» كما كتب في إحدى اللافتات.

هنا تونس الرقعة الجغرافية الصغيرة التي حيرت الجميع بوحدة أبنائها هنا تونسيون بسطاء بعضهم انتخب الراحل الباجي قايد السبسي وآخرون جاؤوا تلبية لواجب الوطن لوداع رئيس الدولة، هنا اختلفت الأفكار فبعض يتحدث عن ضرورة قول «الله اكبر فقط» وآخر يدعو الجميع للهتاف «إذا الشعب يوما أراد الحياة» و رابعة تطلب من النسوة الزغردة على رجل الوطن وخامس يقول علينا جميعا ان نقول «عاشت تونس حرّة حرّة» وسادس يطلب بلطف ترديد النشيد الوطني كاملا، وخامسة تغلبها دموعها وتطلب من الحضور الصمت قليلا اثناء مرور الجثمان، اختلافات عديدة اختلافات في القول تعكس اختلاف في الفكر لكن هيبة الدولة وحّدتهم، وحّدهم العلم التونسي الذي التحفت به النسوة ورفعه الرجال عاليا ليرفرف شامخا خافقا للحرية وللحياة، هنا مشهد مبهر وعجيب آلاف الناس الذين جاؤوا آلاف من الافكار والرؤى المختلفة آلاف من المواقف مشهد يجعلك تسأل هل نحن في جنازة أم في موكب عرس فالزغاريد والتصفيق والهتاف يقول أننا في عرس كبير بينما «الصمت» و«البكاء» وكلمات «يرحمك يا البجبوج» تقول أننا في جنازة مهيبة جنازة ستدخل التاريخ وسيكتب الصادقون ان التونسيين باختلافاتهم وحدتهم جنازة الرئيس الباجي قايد السبسي.

رابضوا لساعات، منذ الصباح وهم يقفون منتظرين موكب جثمان الرئيس لتوديعه حدّ مثواه الاخير، رابضوا وانتظروا قدوم الموكب، مشوا خلف جثمانه حدّ باب الجلاز، غنوا النشيد الوطني ورفعوا شعارات الحرية وهتفوا باسم تونس ورددوا الله اكبر وبكت النسوة وزغردن في الوقت ذاته وطلب الرجال رفع النشيد الوطني، اختلفت اراؤهم وطريقة كلامهم وانفعالهم لكنهم انتظروا بكل صدق حدّ وصول الجثمان الى مكانه قبل ان يغادروا والرايات الوطنية ترفرف، ابتعدوا قليلا عن الجلاز قبل ان يجتمعوا على بائع «التين الشوكي» في شارع قرطاج ثم تفرّقوا على المقاهي والدكاكين والمحلات التجارية ليواصلوا نسق حياتهم العادية ويكملوا يومهم الذي سيكتبه التاريخ.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115