وفاة رئيس الجمهورية بالمستشفى العسكري: نهاية رجل استثنائي

ليس من السهل الكتابة عن الباجي قائد السبسي، فالرجل ولأكثر من 70 سنة كان جزءا من السلطة وفيها، عضوا في الحركة الوطنية وزيرا،

رئيسا لمجلس نواب، رئيسا لحكومة انتقالية وأخيرا رئيسا للجمهورية، وهو المنصب الذي استمر فيه الى ان وافته المنية يوم أمس.

مسار حافل ليس من السهل تتبعه وإدراك تعقيداته واكراهاته دون التورط في تبني مواقف انطباعية وذاتيه، فالرجل الذي ارتبط اسمه بالمسار الانتقالي في تونس منذ 2011 جعل من العسير تتبع خطواته، وان كان البعض يظن انه يستطيع، ليختزل مسار الرجل في لحظات معينة، تساعده على اصدار حكمه وتصنيفه.
تصنيف يجافي الحقيقة ولا ينتصر لرئيسنا الراحل، محمد الباجي قائد السبسي، عسر في حياته ومماته مهمة رسم صورة له، دون ان تكون تفاصيلها معقدة ومركبة ومربكة، لمن يرسم ولمن ينظر.

الرجل التسعيني، الذي أعاد جزء من التونسيون اكتشافه في مارس 2011 كأحد رجالات بورقيبة، جاء ليتولى مهمة رئاسة الحكومة في مرحلة حرجة مرت بها تونس، بعد انهيار نظام بن علي نتيجة الاحتجاجات الشعبية التي تواصلت من 17 ديسمبر إلى 14 من جانفي 2011.
مهمة تكفل بها الرجل الذي عاد لممارسة الحكم بعد انقطاع تجاوز 20 سنة، هي المدة التي أمضاها الفقيد بعيدا عن أروقة السلطة والفعل السياسي بعد سنوات من صعود بن علي لسدة الحكم، وابعاده للرجل من المشهد كما فعل بكل البورقبيين وجيل الاستقلال.

جيل انتسب اليه محمد الباجي قائد السبسي منذ الأربعينات تاريخ التحاقه بالحركة الوطنية التي ظل عنصرا فيها الى غاية الاستقلال الذي نالته تونس والرجل بالكاد بلغ الـ30 من العمر، قضى 14 سنة مع رفاق له يناضلون من اجل الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي.
هذا الثلاثيني كان منذ 1956 جزءا قارا في المشهد السياسي وفي السلطة التي شهدت اطوارا وتطورات لا تعد او تحصى، انتهت في السبعينيات من القرن الماضي لبروز حركة معارضة ضد سياسات الحبيب بورقيبة، الرئيس الراحل، صلب الحزب الحاكم الحزب الدستوري الاشتراكي، سابقا.

حزب خرجت منه مجموعة من بينها الباجي قائد السبسي لتعارض الزعيم الراحل وخياراته خاصة في مسالة الديمقراطية، ليغادر الباجي رفقة ثلة من أبناء الحزب قبل ان يعود الى صف من يصفه بـ«معلمه» ليلازمه الى نهاية حكمه.
ملازمة مكنت الرجل الذي عاد لصدارة المشهد السياسي التونسي في 2011 لان يستلهم منها ما يعينه على ان يكون الرجل الاكثر تاثيرا في الساحة التونسية في السنوات الـ8 الفارطة، سواء وهو رئيس للحكومة او زعيم لحركة سياسية جديدة وختاما رئيسا لجمهورية.

8 سنوات أعاد التونسيون فيها اكتشاف الرجل ذي 84 سنة، القادم ليشرف على اول انتخابات تشهدها تونس بعد الثورة، مهمة نجح الرجل في انجازها بشهادة اشد خصومه الذين وقفوا إجلالا له يوم امس وودعوه بعبارات لا تليق الا به.
الباجي قائد السبسي رئيسنا الذي فارقنا يوم امس، هو الشخصية السياسية الاكثر تاثيرا في المشهد التونسي وسيذكر له هذا في التاريخ الذي سينصف الرجل لاحقا ويضعه في خانة «زعماء الامة»، والزعماء يتعثرون ويخطئون وهو قد تعثر وأخطأ من وجهة نظر الكثيرين منا.

لكن هذا لم يمس من مكانته لدى التونسيين الذي وان اختلفوا حوله في حياته ومسكه لمقاليد الحكم الا انهم اصطفوا خلفه في عدة محطات من بينها مماته ومرضه، فالرجل نجح في ان يعيد توحيد التونسيين بعد ان شقتهم عصبية القبائل.
عصبية انتفت امس لتكشف ان تونس قطعت شوطا هاما في مساره، الانتقال من دكتاتورية الى الديمقراطية، مسار كشف رد فعل التونسيين امس على خبر موت مريد «رايس الابحار» فالكل يقبل التعازي في رئيسه.

علاقته برئيسه هو الفرق الذي برز امس، فالباجي قائد السبسي الذي رحل عن 92 سنة رحل وهو رئيس منتخب لكل التونسيين، حتى اشد الغاضبين عليه وسخط، رحل رئيسنا لكنه لقننا درسا برحيله وهو الفرق بين وفاة دكتاتور في الحكم ووفاة رئيس منتخب في بلد ديمقراطي. والفرق بينهما هو سحنة الحزن التي خيمت على البلاد التي تعامل من فيها مع الفاجعة على انها وفاة احد أفراد الاسرة، حتى أولائك الأشد حنقا عليه طالهم الحزن ورثوه.

رحل الباجي قائد السبسي وبرحيله اغلق قوس الخلافات والصراعات السياسية معه، لكن رحيله لم ينه امد مساهمته وتاثيره في المشهد السياسي، فالرجل ذو المسيرة الاستثنائية بما في الكلمة من معنى له ستتذكره الاجيال القادمة على انه من مؤسسي الجمهورية الثانية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115