سوف يخرج الحبيب بورقيبة من جحيمه ويعود تمثال الفارس التونسي الأكثر مجدا ليتبوأ مكانه في تونس ، في شارع الحبيب بورقيبة ، قبالة تمثال عبد الرحمن ابن خلدون ، عالم الاجتماع التونسي الألمع عبر العصور «...تلك الكلمات كتبها الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في ديسمبر من عام 2008 في كتابه « الحبيب بورقيبة ...المهم والأهم» حينما كان في حالة ابتعاد قسري عن السياسة في حكم زين العابدين بن علي ، ولم يكن يدرك أن نبوءته ستتحقق بعد سنوات لاحقة عندما تولى رئاسة الجمهورية فأعاد النصب التذكاري إلى مكانه الأصلي في قلب العاصمة التونسية وتحديدا يوم 23 ماي 2016 بكل ما يحمله ذلك من رمزية . فالزعيم بورقيبة أو ما يمكن تسميته بالمدرسة البورقيبية كان لها الأثر الكبير في مختلف التوجهات الدبلوماسية والسياسية والفكرية التي اتخذها الباجي قائد السبسي طوال مسيرة حياته السياسية من خلال تبوئه مناصب دبلوماسية هامة في مسيرته سواء عندما كان وزيرا للخارجية التونسية او عندما تقلد مقاليد الرئاسة بعد نجاحه في الانتخابات.
وكان من المنتظر، أن يتوجه قائد السبسي بكلمة إلى الشعب التونسي، أمس بمناسبة إحياء الذكرى الـ62 لإعلان الجمهورية. وهو اليوم الذي تم فيه إلغاء النظام الملكي وإعلان النظام الجمهوري سنة 1957. ولكن كلمته الأخيرة كانت الوداع تاركا وصايا دبلوماسية وسياسية هامة .
اليوم يغادرنا الرئيس الباجي قائد السبسي في يوم حزين في ذكرى عيد الجمهورية ليؤكد أن الرجل استثنائي في تاريخ البلاد وتشهد له مواقفه الدبلوماسية طوال مسيرته انه كان رجل مبادئ ودافع بكل ما أوتي من حنكة ودهاء دبلوماسي عن القضايا الوطنية والعربية .
برز الرئيس الباجي قائد السبسي بشكل لافت عند احتضان تونس القمة العربية الأخيرة التي عقدت في مارس الماضي بعد أن رفضت احتضانها البحرين بسبب الوضع العربي الراهن . لكن قائد السبسي يحسب له انه قرر جمع القادة العرب تحت سقف واحد في محاولة لرأب الصدع والتفكك العربي . ولم تكن صدفة أن يختار التضامن العربي كعنوان للقمة العربية التي استضافتها بلادنا مؤخرا .
وكانت له مواقف حازمة فيما يخص الأزمة الليبية فدعا إلى تجنيب ليبيا مزالق التدخلات الكبرى وكان قد أطلق مبادرة إلى جانب مصر والجزائر من اجل الحل السياسي في هذا البلد . أو ما سمي بإعلان تونس الموقع يوم 20 فيفري 2017 من قبل وزراء خارجية كل من تونس والجزائر ومصر لدعم التسوية السياسية الشاملة في ليبيا، حيث أكد على تحقيق المصالحة برعاية دول الجوار والأمم المتحدة والتمسك بالحل السياسي، ورفض الحل العسكري والتدخل الخارجي في ليبيا.
وكان المنطلق الأساسي لمبادرة الرئيس هو مواصلة السعي الحثيث لتحقيق المصالحة الشاملة في ليبيا دون إقصاء في إطار الحوار الليبي بمساعدة من الدول الثلاث وبرعاية الأمم المتحدة.والتمسك بسيادة الدولة الليبية ووحدتها الترابية وبالحل السياسي كمخرج وحيد للأزمة الليبية. ورفض أي حلٍّ عسكري للأزمة وأي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية لليبيا باعتبار أن التسوية لن تكون إلا بين الليبيين أنفسهم، والتأكيد على أن يضم الحوار كافة الأطراف الليبية مهما كانت توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية.. أما فيما يخص الجزائر فأكد في تصريحات صحفية أن لا خوف على هذا البلد وأعرب عن إدراكه العميق بان الجزائر وشعبها مدرك تماما لمخاطر الخلافات.
يمتلك الباجي خبرة كبيرة اكتسبها من مسيرته السياسية الممتدة على أكثر من 60 عاما من العمل السياسي وخدمة الشأن العام ..وتلك الخبرة وظفها جيدا في مختلف الظروف الصعبة التي مرت بها بلادنا أو في التوجهات الرسمية للدولة التونسية إزاء قضايا المنطقة وأزماتها الحساسة .
أما القضية الفلسطينية والتي تحظى باهتمام استثنائي لدى التونسيين فقد كانت له قصة استثنائية، فعندما تولى وزارة الخارجية في 15 افريل1981 في تلك الفترة انتزع قرارا من مجلس الأمن الدولي بإدانة الهجوم الجوي الإسرائيلي على أحد مقرات منظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط بالضاحية الجنوبية للعاصمة التونسية.
يقول الرئيس الراحل في تصريحات صحفية سابقة « وضعنا القضية الفلسطينية في المقدمة وحرصنا على أن تكون في سلم الأولويات على جدول أعمال القمة العربية. أما فيما يخص سوريا، فقال :«صحيح أن لنا مآخذ على سوريا، ولكنها جزء لا يتجزأ من العالم العربي، ولديها مكانة في الجامعة العربية، ويجب أن تعود إلى مكانها الطبيعي. ولا ننسى أن سوريا أصبحت قضية عالمية تؤثر فيها كل الدول، روسيا من جهة، والأمريكيون من جهة أخرى، والفرنسيون وغيرهم، وهذا واقع. وأكد أيضا ان العالم العربي منقسم ولا يمكن أن نزيد تقسيمه ونعمق الشرخ . فتونس ظلت على الحياد واتبعت السياسة البورقيبية في تعاملها الخارجي منذ أن أصبح قائد السبسي رئيسا للجمهورية وهذا ما يفسر عودة العلاقات مع دمشق تدريجيا و تتويجها بتعيين قائم بالأعمال في هذا البلد. بعد أن تم قطعها في عهد الترويكا في زمن التخبط الدبلوماسي.
الباجي قائد السبسي هو قامة هامة ونادرة من طينة استثنائية وخسارته كبيرة في هذا الظرف الدقيق الذي تمر به تونس و المنطقة.