بالأسعار الجارية والنتيجة ارتفاع جديد في عجز ميزاننا التجاري إذ تجاوز عتبة 8 مليار دينار لهذه الفترة (8106 مليون دينار تحديدا) بعد أن كان في حدود 6.6 مليار دينار لنفس الفترة من السنة الفارطة، أي أن عجزنا التجاري قد ارتفع مقارنة بالسنة الفارطة بـ%22.4 ،ولو واصلنا على نفس هذه الوتيرة فقد نتجاوز لكامل السنة 2019 المبلغ الخيالي لـ23 مليار دينار أي أكثر من نصف ميزانية الدولة وحوالي %20 من الناتج المحلي الإجمالي..
يمكن أن نقول أن عجزنا التجاري كان إلى حدود سنة 2016 تحت السيطرة بمعدل في حدود 12 مليار دينار للسنوات الست الأولى للثورة، ورغم أن هذا المبلغ ضخم بالنسبة لإجمالي الثروة الوطنية ولكنه لم يكن يمثل تهديدا خطيرا لتوازناتنا العامة وخاصة لميزان الدفوعات للدولة التونسية ..
ولكن منذ سنة 2017 تفاقم عجزنا التجاري بصفة مذهلة إذ ارتفع إلى 15.6 مليار دينار في 2017 وتجاوز 19 مليار دينار في 2018 وهاهو متجه لرقم قياسي جديد قد يصل إلى 23 مليار دينار لكامل سنة 2019 إذا ما تواصلت وتيرة العجز على هذه الشاكلة .
ما الذي يفسر هذا الانزلاق الخطير ؟
العوامل الظاهرية جلية للجميع وهي تتلخص في اثنين أساسيين : تراجع قيمة الدينار منذ شهر ماي 2017 إذ انتقلنا من 1 يورو يساوي حينها 2.5 دينار إلى 3.4 دينار اليوم ويضاف إلى ذلك استفحال عجزنا الطاقي الذي أصبح يمثل لوحده ثلث عجزنا التجاري بل وتجاوز ذلك ليمثل %38.6 من مجموع عجزنا التجاري خلال هذه الأشهر الخمسة الأولى لسنة 2019.
ولكن هذا لا يفسر كل شيء بداية لأن تراجع الدينار كان يمكن أن يكون حافزا إضافيا لتنشيط التصدير والرفع من قدرته التنافسية ، ولكن تراجع الدينار لم يكن سياسة إرادية للدولة التونسية تهدف إلى سياسة تصديرية هجومية بل خطأ اتصاليا من الحكومة انجر عنه فزع الأسواق فتراجع غير متحكم فيه فكانت كل انعكاساته سلبية ..
لا جدال بأن قيمة الدينار في بداية 2017 لم تكن تعكس واقعه الحقيقي ولكن كان هذا يفترض سياسة عمومية استباقية للحد من سلبيات التراجع والاستفادة القصوى في التصدير ، أي إعداد مؤسساتنا الاقتصادية وهياكل الدعم والإسناد لاكتساح أسواق جديدة أو تعزيز مواقعنا في أسواقنا التقليدية.
ولكن الواقع كان عكس ذلك ولهذا نقول ونؤكد بأن عجزنا التجاري المتفاقم والمخيف هو عنوان الفشل الأكبر لحكومة يوسف الشاهد.
عجزنا الطاقي لا تتحمله هذه الحكومة لوحدها ولكن الواضح أنها تأخرت كثيرا لمعالجته بصفة جدية وتعاملت معه وكأنه قدر محتوم لا يرد والحال أن الأغلبية المريحة التي كانت تتمتع بها في بداية عهدتها ومساندة المنظمات الاجتماعية لها كانا يسمحان لها بدءا بإرجاع تدريجي لمستوى إنتاجنا في 2010 عبر تجديد العقود ،عقود البحث والاستكشاف
والتنقيب والاستغلال وأن تعالج المعيقات الاجتماعية في إبانها كما أن التعويل المكثف على الطاقات البديلة والمتجددة قد تأخر على الأقل بسنتين وكان بإمكاننا لو قمنا بطلبات عروض منذ بداية سنة 2017 لمحطات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بالخصوص أن نبدأ في جني الثمار منذ هذه السنة.
ويبقى مع ذلك عنصر أساسي يفسر عجزنا الهيكلي هذا وهو غياب سياسة واضحة وصريحة لتشجيع الصناعة التونسية على حساب الاقتصاد الطفيلي المعتمد فقط على توريد البضائع الاستهلاكية والتي أصبح ينافس بعضها صناعات أساسية في بلادنا كالنسيج مثلا.
لا نعتقد أن مصلحة تونس تتمثل في التضييق العشوائي على المبادلات التجارية فاقتصادنا مفتوح ولا يمكن له أن يتطور إلا في ظل انفتاح أوسع وانخراط أفضل في السوق العالمية، ولكن هذا لا يمنع ، بل يستوجب وضع إستراتيجية قوامها دعم الإنتاج التونسي وتحفيز إضافي لكل استثمار صناعي أو فلاحي أو خدماتي على حساب النشاط التوريدي الصرف والذي لا يهدف من ورائه لخلق قيمة مضافة في البلاد.
وإذا ما أضفنا إلى كل هذا عنصر المضاربة غير المباشرة على العملة كالتوريد المشط لمواد أولية غير قابلة للتلف من اجل الاستفادة من التراجع المستمر للدينار نفهم أن هذا الحجم المتفاقم لعجزنا التجاري ليس قدرا محتوما، ولكن يتطلب ذلك إستراتيجية تستبق الأزمات ولا تكتفي بإدارة سيئة لها ..
تلك هي المشكلة..