التصريح او القول إنه أخرج من سياقه، بل جاء ليعلن ان الحركة تريد من كل أعضائها الكف عن تقديم تصريحات تتعلق بالانتخابات الرئاسية، بمن فيهم الرئيس المؤسس، وذلك لمنع التشويش عليها وعلى «إستراتيجيتها» التي تقوم على ربح الوقت.
يوم أمس سيكون علامة فارقة في تاريخ حركة النهضة، إذ على مدار أكثر من 40 سنة لم يسبق لأي من هياكلها ان ناقض رئيسها ومؤسسها راشد الغنوشي على العلن بل وببلاغ إعلامي صادر عن مكتبها التنفيذي، الذي عينه الرئيس نفسه.
سابقة في تاريخ الحركة عبرت عن نفسها ببلاغ صدر أمس الثلاثاء 26 مارس 2019، جاء فيه ان وسائل الإعلام تتداول في مواقف «منسوبة للحركة» تتعلق بمساندة مرشحين في الاستحقاق الانتخابي الرئاسي، وآخر هذه المواقف المنسوبة وفق البلاغ تصريح رئيس الحركة، الذي قالت انه وقع اقتطاعه.
اقتطاع دفع بالحركة إلى التذكير بقرار مجلس شوراها في دورته الـ25 المنعقدة في فيفري الفارط، والذي نص على ان النهضة «معنية بالانتخابات الرئاسية» وأنها كلفت المكتب التنفيذي بإعداد تصوّر لكيفية المشاركة، سواء بمرشح خاص بها أو بدعم مرشح من خارجها.
بلاغ سيكتشف المتمعن فيه انه وعلى عكس ظاهره- خاصة في نقطة مرشح خاص بالحركة- يتضمن اعلانا هاما وهو ان الحركة التي اعرب رئيسها عن عدم رغبته في الترشح لم يعد امامها غير خيار واحد وهو دعم مرشح من خارجها، ولكن هذا الدعم لن يعلن عنه الان للحؤول دون حرق أوراق الحركة.
فالنهضة لا تريد حرق أهم ورقة لديها الان بعد ان حرقت الأولى، وهي ترشيح رئيسها. اذ كانت منذ صيف 2017 تعد نفسها لتقديم «شيخها» ومؤسسها كمرشح للانتخابات الرئاسية، فوقع اعداد العدة لذلك وتم تغيير مظهر الرجل واضافة ربطة عنق الى لباسه العصري لقبر الصورة السابقة له وبناء صورة جديدة قوامها «رجل دولة»، صورة كرست الحركة نفسها لحفرها في اذهان التونسيين مستعينة بأحدث أساليب التسويق والاتصال.
لكن كل هذا ذهب هباء فالرجل ظل في ذيل ترتيب الشخصيات التي قد يمنحها التونسيون اصواتهم في الرئاسية القادمة، وفق نتائج اكثر من مركز سبر أراء خلال الأشهر الـ20 الفارطة، وهذا ما جعل الحركة ورئيسها يبحثون عن خيار آخر.
ليسقط خيار تقديم الغنوشي وهو في آخر عهدته الثانية والأخيرة في رئاسة الحركة لينافس في انتخابات افضل النتائج التي قد يحققها فيها تعد «خسارة فادحة» لن تقف تداعياتها على حياة الرجل ومسيرته السياسية بل ستطال حركة النهضة التي تخشى من أن تئد نتائج الرئاسية نتائجها في الانتخابات التشريعية القادمة.
فالنهضة التي تتقدم كل المنافسين في نوايا التصويت في التشريعية تدرك ان تقدمها في انتخابات اكتوبر القادم وتحقيق «فوز» لن يكون ذا معنى سياسي ان خسرت الرئاسية بنتيجة «كارثية» لهذا فانها لن تقتصر على التخلي عن خيار ترشيح رئيسها راشد الغنوشي فقط بل ستتخلى عن فكرة تقديم مرشح من داخلها لتجنب ذات النتيجة.
هذه القناعة لا تقدمها الحركة بشكل مباشر بل تمارس الخطابة لتسويقها خاصة في الدوائر السياسية، اذ تبرز ان تخليها عن تقديم مرشح خاص هدفه طمأنة الشركاء والخصوم بانها لا تبحث عن الهيمنة على السلطة، ولا نية لها في ان تقطع مع خيار «التوافق» في المستقبل المنظور.
خطاب تسويقي يضع الحركة ايضا في معضلة جديدة وهي ان لم تكن تنوي تقديم مرشح خاص بها، فما هي خياراتها المتبقية، دعم مرشح ام تكرار تجربة 2014؟. هنا الحركة وعبر قنواتها تنقل تصورها القائم على ان عدم دعم مرشح او تقديم مرشح سيجعلانها تغيب عن الساحة السياسية في زمنين هامين، الاول منذ غلق باب الترشح للتشريعية وانطلاق الحديث عن الرئاسية حتى حلول موعد الحملة والثاني ما بعد الاعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية الى غاية معرفة من هو الرئيس القادم.
حيز زمني تعتبر النهضة انها ستفقده وبفقدانه، خاصة الحيز الاول، ستفقد مساحات اعلامية هامة لتسويق نفسها وبرنامجها لتعزيز حظوظها في التشريعية، كما ان تصورها يتضمن قناعة بان غيابها عن الرئاسية كليا امر غير مقبول ويمس صورتها كحزب «جدي» وكبير.
رسائل هي الاخرى خطابية تسويقية لا تكشف الحقيقة الكاملة، فالنهضة التي لا ترغب اليوم في اعلان خيارها بشكل نهائي ورسمي هل ترشح احد ابنائها ام تدعم مرشحا من خارجها؟ هدفها الاساسي هو تجنب وضعها في الزاوية إن هي حسمت احد الخيارين، والواضح انه سيكون الدعم. ستصبح تحت ضغط الحلفاء والخصوم للاعلان عن هوية من تدعم.
وهذا ما لا ترغب فيه الحركة لعدة اسباب اولها، انها تعتبر ان الكشف عن هوية مرشح قبل 8 اشهر من الانتخابات الرئاسية سيفقدها القدرة على المناورة والبحث عن تحالفات وتوافقات تتعلق اساسا بالحكم بعد اكتوبر 2019.
اي انها لا ترغب في ان تحد من خياراتها بالاصطفاف خلف مرشح قد لا يستمر نجمه في الصعود او قد لا يحقق الحزب او الجبهة التي تدعمه نتائج في التشريعية تمكنه من عقد تحالف حكم مع النهضة.
هذا ما تخشاه الحركة حرق ورقتها الرابحة في التفاوض، اذ هي ترغب في ان تراقب المشهد واين ستنتهي تقلباته ولصالح من، نداء تونس ام تحيا تونس او اي حزب آخر، المهم ان يحقق هذا الحزب نتيجة جيدة في التشريعية وان يكون له مرشح ذو حظوظ بالفوز في الرئاسية.
فالنهضة ليست على استعداد لان تدعم مرشحا «ليخسر» هو الاخر وبخسارته يجر الحركة معه الى مربع ازمة متشعبة قد تجعل من فوزها بالمرتبة الاولى في التشريعية غير كاف للمشاركة في الحكم.
مخاوف عدة وتوازنات ترغب النهضة في الحفاظ عليها الى غاية حلول موعد الـ6 من اكتوبر 2019، تجعلها صداميه مع أبنائها لفرض الانضباط عليهم ومنعهم من التشويش عليها حتى وان كان احد هؤلاء الأبناء هو الشيخ المؤسس الذي قال ان حركته لا ترى مانعا في دعم يوسف الشاهد في الرئاسية.
دعم لا تعارضه الحركة ولكنه تعارض توقيت إعلانه، اذ جاء مبكرا جدا مما يفقد النهضة قدرتها على ادارة مفاوضات مع فاعلين آخرين للوصول الى افضل صفقة شاملة ترسم ملامح السنوات الخمس القادمة وموقع النهضة في الحكم.