في بعض القرابين الحقيقية لحركة النهضة

في البداية نشكر للسيد راشد الغنوشي اهتمامه بما يكتب في الصحافة التونسية واختياره هذه المرة التعقيب على المقال الذي نشرناه بـ«المغرب» يوم

الأحد 13 جانفي الجاري تحت عنوان «قرابين النهضة لرئيس الدولة مقابل ..» والعنوان الذي اختاره رئيس حركة النهضة يعبّر بوضوح عن مضمون تعقيبه «الثورة والقرابين المتخيلة» وهو يقول فيه أن النهضة على امتداد تاريخها لم تقدم قرابين لا لبورقيبة ولا لبن علي ولا لأحد .
هنالك قربان وحيد قدمته النهضة خلال عقودها الخمسة وهو «التنازل عن السلطة سنة 2013 لإنقاذ الثورة « وتمنى علينا السيد راشد الغنوشي لو تناولنا بالطرح جملة الأفكار الواردة في محاضرته التي ألقاها يوم السبت 12 جانفي على منبر «مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية» الذي يديره صهره رفيق عبد السلام ومن بينها خاصة تأكيد رئيس الحركة انه ليس لديه طموح شخصي لرئاسة الجمهورية ..
ما يعنينا في هذا التعليق على التعقيب هو مسألة «القرابين» التي أنكرها رئيس الحركة الإسلامية ، والمقصود هنا واضح هو جملة التنازلات الهامة التي أقدمت أو تقدم عليها حركة النهضة لتحقيق مصالح أو لدفع مضار قد تلحق بها ..
وفي الحقيقة لم افهم شخصيا إنكار رئيس النهضة تقديم حركته لتنازلات هامة باستثناء تخليها عن السلطة في 2013 ، مع العلم أنها كانت حينها شبه مكرهة على ذلك نظرا للاختلال الواضح لموازين القوى المحلية والدولية ضدها ..
لا أريد أن أعدد قرابين النهضة قبل الثورة ، ولكن المتابع لتاريخ الحركة يعلمها جيدا ، والنهضة لم تقدم قرابين للسلطة فقط بل وللمعارضة أيضا ..
وفي ما يلي بعض القرابين :
• ما حف بتأسيس النهضة سنة 1981 وخاصة في إدخال بعض الكلمات الغريبة تماما على قاموس الجماعة آنذاك «الديمقراطية» المستعملة على استحياء استجابة لمطالب بعض الجهات القريبة من الحكم آنذاك عسى أن يحظى ملف «الاتجاه الإسلامي» ببعض المقبولية
• قربان التخلي ، العلني على الأقل ، عن النقد اللاذع لمجلة الأحوال الشخصية في أواسط ثمانينات القرن الماضي وكان ذلك شرط الأحزاب السياسية آنذاك (وخاصة حركة الديمقراطيين الاشتراكيين والحزب الشيوعي ) للقبول بمبدإ التنسيق مع حركة «دينية» كما كان يقال.
• الإمضاء على الميثاق الوطني سنة 1988 والذي أقر بمدنية الدولة ومركزية مجلة الأحوال الشخصية
• قربان حذف كل إشارة إلى الإسلام في اسم الحركة في أوائل حكم بن علي عساها تحصل على التأشيرة فتم التخلي عن تسمية «الاتجاه الإسلامي» وتعويضها بـ «حركة النهضة».
• القبول بالاقرار بالمساواة بين الجنسين في وثائق حركة 18 أكتوبر حتى تفك عزلتها السياسية في نهايات عهد بن علي.
• تهنئة صخر الماطري ، صهر بن علي ، بإذاعة الزيتونة للقرآن الكريم باعتبارها نوعا من نصرة الدين وما تلاها من رسالة شخصية وجهها الغنوشي لبن علي لطي صفحة الماضي.
هذا غيض من فيض كما يقول القدامى ..
وفكرة القرابين ليست حكرا على الحركة الاسلامية بل تعمد اليها جل التيارات الفكرية والسياسية قصد تحقيق مصالح آنية أو دفع مضار تهددها ..
ومن حق الجميع ، بالطبع ، أن يعتبر أن قرابينه إنما هي لخدمة البلاد والوطن ..
ولكن في تعقيب السيد راشد الغنوشي مسالة فيها «أشياء من حتى» عندما يكتب «وقلت أننا واثقون أن رئيس الجمهورية سيكون حريصا على أن تكون مبادرته حول الميراث موحدة للتونسيين والتونسيات ولا اعلم كيف فهم من ذلك أننا بصدد تقديم قربان كبير أو صغير له أو لغيره» ..
أما أنا فبدوري لم افهم ما لم يفهمه السيد الغنوشي .. ففي اجتماع مجلس شورى الحركة المجتمع يومي 25 و26 أوت 2018 أي بعد أسبوعين من إعلان رئيس الدولة انه سيتقدم بمبادرة تشريعية للمساواة الاختيارية في الميراث وفق ما اقترحته لجنة الحريات الفردية والمساواة تم إصدار بيان جاء فيه في نقطته السادسة ما يلي :
« و قرر مجلس الشورى التمسك بنظام المواريث كما ورد في النصوص القطعية في القرآن والسنة ، وعبرت عنه مجلة الأحوال الشخصية .
ويؤكد أن مبادرة المساواة في الإرث فضلا عن تعارضها مع قطعيات الدين ونصوص الدستور ومجلة الأحوال الشخصية فهي تثير جملة من المخاوف على استقرار الأسرة التونسية ونمط المجتمع»
ترى ماذا تغير في اقل من خمسة أشهر لتتحول مبادرة المساواة في الإرث من التعارض مع قطعيات الدين ونصوص الدستور ومجلة الأحوال الشخصية إلى مبادرة يفترض في نية صاحبها رئيس النهضة ان تكون «موحدة للتونسيين والتونسيات»؟؟
السنا هنا أمام نية تراجع من النقيض إلى النقيض ؟
تراجع قد يجسم عمليا لو حصلت المقايضة التي تحدثنا عنها في مقالنا .. ولو لم يدر في خلد الحركة مقايضة تمرير مبادرة رئيس الدولة مقابل رفع يده عن ملف التنظيم السري فكيف نفسر الانتقال من التعارض مع القطعيات الدينية إلى مبادرة موحدة للتونسيين والتونسيات ؟
ولا يفوتنا الإشارة إلى الدفاع المتكرر عن مصطفى خذر القابع اليوم في السجن والذي وجه إليه قاضي التحقيق رقم 12 تهمة القتل العمد في ملف اغتيال الشهيد محمد البراهمي والذي تعتبره هيئة الدفاع عن الشهيدين احد العناصر الأساسية في ما تسميه بالتنظيم السري لحركة النهضة .. والذي أنكرت في البداية عدة قيادات نهضوية مجرد معرفته ليصبح لديه علاقات « إنسانية» بنهضويين وغير نهضويين وكذلك احد ضحايا الاستبداد على حد تعبير رئيس النهضة وفي هذا التعقيب يعيد الكرة عند حديثه «عن الاستغلال المقيت لقضية مختلقة (...) حيث لا حصانة لمواطن يفترض انه بريء حتى تثبت إدانته (..)»
القرابين النهضوية لا تقف عند التخلي عن السلطة في 2013 بل هي سابقة ولاحقة وتؤرخ لأهم المنعرجات السياسية في مسيرة نصف قرن للحركة الإسلامية .. وكلها كانت تقدم فقط خدمة لمصلحة الحركة..
أما من يعتبر أن مصلحة حزبه هي ذاتها مصلحة البلاد فذلك نقاش آخر ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115