واقع مكافحة الفساد: في تونس

كانت تونس قبل الثورة ضحية لمنظومة فساد تجاوزت مجرّد الظواهر والأفعال المنعزلة عن بعضها البعض،

تكوّنت هذه المنظومة بصورة تدريجية منذ بداية التسعينات من القرن الماضي، وتدعّمت شيئا فشيئا فأحكمت قبضتها على الدولة والمجتمع وتغلغلت عناصرها داخل مجمل المؤسّسات السياسية والإدارية والقضائية للدولة. كما امتدّت منظومة الفساد لتشمل، علاوة على هذه المؤسّسات، هياكل ومنظمات وأحزاب ويأتي على رأسها حزب النظام (التجمع الدستوري الديمقراطي) وأخرى اجتماعية وعدد من وسائل الإعلام والاتّصال، كما أنّها اكتسحت المجال المالي والاقتصادي، حتى أنّ الاعتقاد أصبح سائدا لدى العموم أنّ اتّخاذ أيّ قرار أو الحصول على خدمة إدارية أو تبوؤ مسؤوليات أو انتداب في وظيف عمومي بات يخضع لزاما لدفع رشاوى أو عطايا أو هو يكون محكوما بالضرورة بانتماءات أو بولاءات حزبية أو عائلية أو جهوية.

ولئن ثبت أنّ تونس كانت تعيش طيلة عقدين على الأقل فسادا كبيرا موازيا للسلطة الحاكمة، فإنّ هذه الأخيرة كانت تتعمّد إخفاء الحجم الحقيقي للفساد والرشوة بغاية تلميع صورة النظام القائم في ظل نظام قانوني منقوص أو غير نافذ يشجّع الفساد ويحصّنه من التجريم، بل هو يحمي مجرمي الفساد ومنتهكي المال العام ويتستّر عليهم بكل السبل القضائية والأمنية والإدارية والإعلامية...

في هذا الإطار، ورد بتقرير البنك الدولي لسنة 2014 حول تونس، أنّ قيمة الممتلكات المصادرة لعائلة الرئيس السابق بن علي والمقرّبين منه قدّرت بما يقارب ربع الناتج الداخلي الخام لتونس بعنوان سنة 2011.
لكل هذه الأسباب، فمن الطبيعي أن يكون استفحال الفساد العنصر الحاسم والمحرّك الرئيسي لثورة الحرية والكرامة، «ثورة 17 ديسمبر 2010 - 14 جانفي 2011»(اقتضت توطئة الدستور هذا التأريخ)، فقد كان قوام الثورة بالأساس الانتفاض على الأوضاع الاجتماعية المتدهورة وما تراكم في النفوس من إحساس بالظلم والقهر من جراء الاستبداد السياسي وكذلك الفساد المستشري في مفاصل الدولة والتفاوت البارز بين الجهات في تقاسم الثروات، فضلا عن تنامي البطالة والتهميش في صفوف الشباب، ولم تكن الثورة بالتالي نتاج تحركات هيكلية أو تخطيط مسبق لتنظيمات أو أحزاب، بل كانت انتفاضة شعبية رفعت فيها شعارات عفوية وتلقائية ملتصقة بواقع المواطنين وهمومهم اليومية من شباب وكهول ونساء على غرار «الشغل استحقاق يا عصابة السراق» و«خبز، حرية، كرامة وطنية».

• الجزء الأوّل: واقع الفساد في تونس
1 - اللّجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد
مباشرة بعد الثورة، يعدّ المرسوم عدد 7 لسنة 2011 المؤرخ في 18 فيفري 2011 المتعلق بإحداث لجنة وطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد أوّل نص قانوني يتمّ تخصيصه لتناول موضوع الفساد، تلاه فيما بعد المرسوم الإطاري عدد 120 لسنة 2011 المؤرخ في 14 نوفمبر 2011 المتعلّق بمكافحة الفساد والذي تمّ بمقتضاه إحداث الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لتحلّ محلّ اللّجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد، والتي انتهت أعمالها بوفاة رئيسها العميد عبد الفتاح عمر وبتقديم تقريرها النهائي في شهر أكتوبر من سنة 2011. وتلقّت هذه اللجنة ما يزيد عن 11000 ملف، درست منها 5000 ملفّا وأحالت على القضاء 459 ملفّا تعلّقت بالعديد من الأطراف والجهات والأشخاص تركزّت بالخصوص حول الرئيس السابق وعائلته والمقرّبين منه من رجال السياسة والأعمال والإعلام، غير أنّ جل هذه الملفات، على أهميتها وخطورتها، لا تزال إلى اليوم في طور التحقيق القضائي ولم تصدر في شأنها أحكام قضائية باتّة، وقد خلق هذا التأخير استياء ملحوظا وشعورا لدى العموم ولدى مكوّنات المجتمع المدني بغياب كل نفس جدّي للمساءلة والمحاسبة وبالتالي تنامي كل أشكال ومظاهر الإفلات من العقاب.

2 - المصادرة
وفي نفس السياق، تمّ بموجب المرسوم عدد 13 لسنة 2011 المؤرخ في 14 مارس 2011 المتعلّق بمصادرة أموال وممتلكات منقولة وعقارية مثلما وقع تنقيحه وإتمامه بالمرسوم عدد 47 لسنة 2011 المؤرخ في 31 ماي 2011 مصادرة الأموال المنقولة والعقارية والحقوق المكتسبة بعد 7 نوفمبر 1987 والراجعة للرئيس السابق للجمهورية التونسية زين العابدين بن علي ولزوجته ليلى الطرابلسي ولبقية الأشخاص المعينين بالقائمة الملحقة بالمرسوم والتي ضمّت 114 شخصا (أفراد عائلات الرئيس السابق وزوجته بالدم والمصاهرة وعددهم 109 وبعض وزرائه وعددهم 5)، فضلا عن مصادرة كل الأملاك والعقارات التي يثبت لاحقا اكتسابها من أفراد من جراّء علاقتهم بالأشخاص المنصوص عليهم بالقائمة الأصلية.

كما تمّ بموجب المرسوم المذكور إحداث لجنة مصادرة تتولى في نهاية أعمالها إعداد تقرير ختامي تضمّنه بيانا في جميع الأموال المنقولة والعقارية والحقوق المصادرة بمقتضى المرسوم، ليتمّ لاحقا وبموجب المرسوم عدد 15 لسنة 2011 المؤرخ في 26 مارس 2011 إحداث لجنة وطنية لاسترجاع الأموال المكتسبة بطريقة غير مشروعة والموجودة بالخارج عهد لها العمل على استرداد الأموال التي استولى عليها الأشخاص المشمولون بالمصادرة، فضلا عن إحداث لجنة أخرى بموجب المرسوم عدد 68 لسنة 2011 المؤرخ في 14 جويلية 2011 تعنى بالتصرف في الأموال والممتلكات المعنية بالمصادرة أو الاسترجاع لفائدة الدولة.
وقد تبيّن من متابعة أعمال المصادرة اكتشاف العديد من الصعوبات تتعلق بالأساس بترسيم قرارات المصادرة بالسجل العقاري وبارتفاع قيمة الرهون البنكية الموظفة عليها والتي تتجاوز 100 مليون دينار، فضلا عن طول آجال رفع الائتمان وإعداد الاختبارات والبتّ في عمليات التفويت.
كما لم يسلم التّصرف في الأملاك المصادرة من الاتهّامات، حيث برزت بعض الشكوك في شفافيتها وسلامة إجراءاتها، حتى أنّ المصادرة تحوّلت إلى عبء على الدولة وليست مصدر تمويل أو سيولة إضافية تنتفع بها الخزينة، وهو الأمر الذي أكّدته دائرة المحاسبات في تقريرها الخاص بالمصادرة والتصرف في الأملاك المتأتية منها والراجع لسنة 2015.

3 - استرجاع الأموال المهربة إلى الخارج
أمّا بخصوص النتائج المتحصّل عليها في مجال استرجاع الأموال المكتسبة بطريقة غير مشروعة والموجودة بالخارج، فقد كانت مخيّبة للآمال، حيث لم تتجاوز عموما يختين وطائرة ومبلغ 28 مليون دولار، والحال أنّ الأبحاث الأكاديمية قدّرت أنّ مجموع الأموال المهرّبة من تونس بلغت 38.9 مليار دولار خلال الفترة الممتدة من سنة 1960 إلى سنة 2010 منها 33.9 مليار دولار خلال نظام الرئيس زين العابدين بن علي، طبق صريح أقوال خبير الأمم المتحدة المعني بآثار الدين الخارجي خوان بابلو بوهوسلافسكي حين زيارته لتونس في شهر فيفري 2017.

4 -العدالة الانتقالية
كما انخرطت تونس لأوّل مرة في المسار الرسمي للعدالة الانتقالية من خلال صدور القانون الأساسي المتعلّق بإرساء العدالة الانتقالية وبتنظيمها بتاريخ 24 ديسمبر 2013 والذي تلاه تنصيص دستور 27 جانفي 2014 في فصله 148 على التزام الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها والمدة الزمنية المحدّدة بالتشريع المتعلق بها، ليتمّ على إثر ذلك إحداث هيئة الحقيقة والكرامة كهيكل عمومي مستقل يشرف على تنفيذ هذا المسار بدءا بكشف حقيقة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بما فيها جرائم الفساد والاعتداء على المال العام ومساءلة مرتكبيها، مرورا بإصلاح المؤسّسات وجبر ضرر الضحايا وردّ الاعتبار لهم، ووصولا إلى إرساء مقوّمات المصالحة الوطنية والسلم الاجتماعية.
غير أنّه، وعلى غرار ما تميّز به عمل سائر اللجان سالفة الذكر، فإنّ النتائج المحقّقة في إطار العدالة الانتقالية تكاد تكون هي الأخرى محتشمة، حيث لم تكن أعمال الهيئة محل إجماع وإقناع من مختلف مكوّنات المشهد الإعلامي والمدني والسياسي للبلاد، وتعرّضت الهيئة المذكورة إلى العديد من حملات الانتقاد والتشكيك التي تراوحت جلّها حول عدم حيادية أعضائها في تعاملهم مع سائر الملفات، فضلا عن عدم تقيّدها بتطبيق أحكام القانون المنظّم لها، علاوة على تصادمها مع عدد كبير من مؤسّسات الدولة وعدم امتثالها لأحكام القضاء، لينتهي الأمر بمجلس نواب الشعب في موفى ماي 2018 إلى عدم المصادقة على قرار التمديد لها لسنة إضافية.

5 - الدستور الجديد ومكافحة الفساد
بغاية دعم التمشي الرامي إلى تحصين البلاد من آفة الفساد خاصة عبر تعزيز قواعد وآليات الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، تمّت دسترة هذه المسألة ضمن الدستور الجديد من خلال تنصيصه على إحداث هيئة دستورية تعنى بمكافحة الفساد ضمن مجموعة الهيئات الدستورية المستقلة الخمس، فضلا عن تضمينه عديد الأحكام المتعلق بالقطع مع الفساد وبإرساء الحكم الرشيد، منها بالخصوص ما ورد بالتوطئة في فقرتيها 1 و3، حيث أورد المؤسّسون لدستور 27 جانفي 2014 أنّه: «...ووفاء لدماء شهدائنا الأبرار ولتضحيات التونسيين والتونسيات على مرّ الأجيال، وقطعا مع الظلم والحيف والفساد»، وأنه: «تأسيسا لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي، في إطار دولة مدنية السيادة فيها للشعب...يكون فيها حق التنظّم القائم على التعددية وحياد الإدارة والحكم الرشيد... تضمن فيه الدولة علوية القانون واحترام الحريات وحقوق الإنسان واستقلالية القضاء والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والمواطنات والعدل بين الجهات».
فضلا عن ذلك، فقد كرّس الدستور الجديد ضمن الفصول 10 و11 و12 و15 و32 جملة من المبادئ المتّصلة بإلزام الدولة بمختلف هياكلها السياسية والإدارية المركزية والمحلية بالعمل على منع الفساد ومقاومة التهرب والغش الجبائيين، وبوجوب اعتماد مبادئ الحياد والمساواة والشفافية والنزاهة والنجاعة والمساءلة في تسيير الإدارة العمومية.

6 - التشخيص الكلّي الختامي
لا شكّ أنّ تعثّر المسار الانتقالي في باب مكافحة الفساد بالخصوص وما تميّز به من ضعف على مستوى كشف حقيقة الانتهاكات وإنفاذ المساءلة، مقابل ارتفاع منسوب الإفلات من العقاب نتيجة فشل مؤسّسات القضاء وسائر اللجان والهيئات في ما عهد لهم من مهام في هذا المجال، ساهم في بروز نوع من الارتداد على مكتسبات الثورة تمظهر بالأساس في تعالي بعض الأصوات التي أصبحت تعدّد إنجازات ومزايا النظام السابق، فضلا عن بروز بعض الوجوه السياسية والإعلامية المحسوبة على المنظومة القديمة لتتبوأ المشهد العام وتتحمّل من جديد مسؤوليات ومواقع عليا في مؤسّسات الدولة.
غير أنّه ولئن كانت مجمل هذه التراكمات ذات تأثير نسبي على مستوى الارتقاء بواقع البلاد بالمقارنة مع الطموحات والآمال، فإنّ العديد من المكتسبات قد تحقّقت خلال السنوات التي تلت الثورة، لعلّ من أبرزها التفاف مكوّنات المجتمع المدني واتّفاقها على المضي قدما في مجهود مكافحة الفساد وتكريس المساءلة بدل الإفلات من العقاب، فضلا عن تتالي صدور العديد من النصوص القانونية التي تضمن إطارا قانونيا مقبولا للتّوقي من الفساد ومكافحته ومواءمة التشريعات الوطنية المتّصلة بهذا المجال مع المعايير الدولية المضمنة بالاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد التي صادقت عليها تونس منذ سنة 2008، على غرار:

- القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016 المؤرخ في 24 مارس 2016 المتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة،

- والقانون الأساسي عدد 77 لسنة 2016 المؤرخ في 6 ديسمبر 2016 المتعلّق بالقطب القضائي الاقتصادي والمالي،

- والقانون الأساسي عدد 10 لسنة 2017 المؤرخ في 7 مارس 2017 المتعلق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلّغين والذي تضمّن تعريفا لمفهوم الفساد وحالاته، ولئن يعدّ التعريف في حدّ ذاته أمرا محمودا، إلا أنّه يتّسم بالتوسع المفرط، علاوة وعلى وجه الخصوص تنصيصه على حالات لا تقابلها نصوص جزائية عقابية صريحة ومنها تعطيل تنفيذ أحكام القضاء،

- والقانون الأساسي عدد 59 لسنة 2017 المؤرخ في 24 أوت 2017 المتعلّق بهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد.

- ليكون الختام بصدور القانون الأساسي عدد 46 لسنة 2018 المؤرخ في 1 أوت 2018 المتعلق بالتصريح بالمكاسب والمصالح وبمكافحة الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح المعبّر عنه بقانون «من أين لك هذا»، والذي انطلقت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تفعيل أحكامه من خلال انطلاقها في تلقي التصاريح وبالمكاسب والمصالح قبل الانكباب على فحص محتواها ومعالجتها تصدّيا لكل أشكال الإثراء غير المشروع لدى سائر الأشخاص المشمولين بهذا الواجب.

تبقى الإشارة إلى مسألة على غاية من الأهمية لكنّها لم تنل المكانة التي تستحقّها، سيما أنّها يمكن أن تشكّل سلاحا قويا ضدّ الفاسدين، وأوّل من تفطّن لها هو المشرّع الإيطالي في بداية التسعينات من القرن الماضي بعد أن عجز على مقاومة «المافيا» بالنظام القانوني التقليدي، وشكّلت هذه المسألة ثورة في القانون الجزائي وتتمثّل في قلب عبء الإثبات، بحيث حلّت قرينة الإدانة محلّ قرينة البراءة، وهو ما تبنّاه المشرّع التونسي في قانون «من أين لك هذا»، وعليه أضحى المطالب بالتصريح بالمكاسب والمصالح والذي يعجز بعد التثبّت من الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، على إثبات التفاوت الواضح بين مداخيله ومكاسبه، وعندها صارت هذه المكاسب فاسدة بحكم القانون، وتترتّب عن هذا العقوبة بالسجن والخطية والمصادرة إذا كان شخص المخالف شخصا طبيعيا، وإذا كان شخصا معنويا يضاف الحلّ (الفصول 4 و37 و41 و46 من هذا القانون).

ويمكن الجزم اليوم بأنّ الترسانة التشريعية الوطنية في مجال مكافحة الفساد أصبحت مبدئيا مكتملة، ولا يعوزها إلا الإنفاذ والتطبيق في مواجهة العراقيل والصعوبات التي تعترض حرب مكافحة الفساد وبما تتضمّنه من معارك، وما تتطلّبه من رجال ونساء وطنيين وصادقين ونزهاء وأكفّاء.

أحمد الصواب و محمد العيادي

(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115