وهاهم يؤكّدون ذلك من خلال الحملة التي يشنّونها هذه الأيّام على الدّكتورة نائلة السلّيني لا لشئ سوى أنّها نبّهت إلى خطورة تحفيظ الأطفال القرآن دون ضوابط علميّة وبيداغوجية، داعية إلى احترام الفضاءات المدرسيّة وعدم إقحامها في ما لم تجعل له وحفظ طابعها الحداثي والعلمي وتحصينها من التوظيف السياسي والمذهبي، كما ينصّ على ذلك الدستور.وقد تكلّمت بما كان ينبغي أن يتكلّم به كلّ وطنيّ غيور على نظامنا التربوي العصري الموحَّد والموحِّد للهويّة الوطنيّة، وخاصّة وزير التربية الحامل لهذه المسؤولية، ولكنّ صديقنا وزميلنا ناجي جلّول يبدو أنّ نخوة نتائج سبر الرأي بدأت تخفي عنه ملامح الطريق. وننبّهه ، من باب الصداقة والزمالة، إلى أنّ الفارق ما بين الطموح المشروع والانتهازيّة خطوة، وفي كلّ الأحوال نذكّر الجميع أنّ المدرسة العمومية هي ملك للمجموعة الوطنية ولا يحقّ لأيّ طرف ولا لأيّ وزير أن يفعل فيها ما شاء أو أن يفتحها لمن شاء متى شاء. وفي هذا السياق فإنّ الإصلاح التربوي المنتظر أمر على غاية من الأهمّية، ولا يمكن اختزاله في مسألة الزمن المدرسي، ولا يمكن أن يتمّ كما يجري حاليّا بالتقسيط المريح في مكاتب الوزارة ، بل ينبغي أن يكون موضوعا لاستشارة وطنية واسعة ومعمّقة، ويجب أن يشمل الفلسفة التربوية والأهداف والمناهج والتنظيم والنظم الإشهادية.
أمّا فلتات وزير الشؤون الدينيّة وفتاواه العجيبة لإضفاء الشرعيّة على عديد المساجد المتدعّشة بإخراجها من حيّز الانفلات إلى حيّز الانفلات الجزئيّ، وخطّته الرائدة لمقاومة التدعّش بتحفيظ القرآن لمائة ألف شابّ وتحويل الفضاءات المدرسيّة في كامل البلاد إلى كتاتيب على الشاكلة الأفغانية، فإنّها تؤكّد مرّة أخرى عدم حاجة الشأن الديني إلى وزارة أصلا، والأولى إلغاؤها وتعويضها بإدارة عامّة للشعائر الدينيّة، كما كان الأمر قبل عهد بن عليّ.
هذا بخصوص المبدأ والشكل في مسألة الخلاف حول خطّة تحفيظ القرآن في المدارس خارج أوقات التدريس، أمّا في الجوهر فإنّ المسألة أخطر وأهمّ.
لقد بنى وزير الشؤون الدينية أطروحته على الطريقة السفسطائيّة، منطلقا من مسلّمة مغلوطة يقول فيها إنّ حفظ القرآن عن ظهر قلب يحصّن من التطرّف ، والغريب أن يصدر هذا عن شخص من المفروض أنّه يعلم جيّدا دقائق التاريخ الإسلامي ونشأة المدارس الفكريّة والتيارات المذهبيّة الإسلاميّة، وبالتالي يعلم أنّ أوّل فرقة متطرّفة ظهرت في الإسلام رافعة شعار التكفير، مستبيحة دماء المسلمين وسبي نسائهم وذراريهم، وهي فرقة الخوارج، إنّما تشكّلت من حفظة القرآن وقرّائه الذين وقف بهم فهمهم عند مستواه الحرفي الأوّل أي مستوى النص المحفوظ، وقد حاول الإمام علي دون جدوى إقناعهم أنّ نصّ القرآن حمّال أوجه،لأنّه ولئن كان كلاما إلهيا منزّلا، فمن ينطق به بشر والبشر مختلفون في الفهم والتصوّر. وقد انتهى الإمام قتيلا بسيف أحدهم أثناء صلاة الفجر.
ولا أخال السيد الوزير يظنّ أنّ الدكتور الظواهري أو أسامة بن لادن أو شيوخ طالبان أو أبو عياض أو الحبيب اللوز أو الصادق شورو وغيرهم لا يحفظون القرآن .
طبعا لا شكّ أنّ حفظ القرآن الكريم يظلّ في المطلق مستحبّا رغم أنّ التطوّر التكنولوجي لم يعد يُحْوِج إليه إذ يمكنك أن تستحضر ما تريد منه في ثوان على هاتفك المحمول. ولكن تحفيظ القرآن للأطفال والشّباب دون اعتماد منهجيّة علميّة وتوخّي طريقة بيداغوجيّة ملائمة وتكوين مخصوص لمن يقوم بعمليّة التحفيظ واختيار النّصوص القرآنيّة المحفّظة بما يتماشى مع المتطلّبات التربويّة ومنظومة القيم الإنسانيّة والمستوى العلمي للمتلقّين، يكون كمن يضع سلاحا خطيرا بين يدي طفل يلهو.
ولنا أن نتساءل محقّين: أيّ آيات قرآنيّة نحفّظ لأطفالنا؟!
فالمصحف يضمّ آيات تربّي على روح الحوار والتّسامح والتّعايش مع الآخر المختلف، مثل قوله تعالى:»اُدع إلى سبيل ربّك بالحكمة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين، وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصّابرين» (الآيتان 125 /126 من سورة النّحل، 16 مكيّة)
وفي المقابل نقرأ آيات أخرى تحثّ على قتل المخالفين والتنكيل بهم والتّضييق عليهم مثل قوله:»فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيثما وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلّ مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصّلاة وآتوا الزّكاة، فخلّوا سبيلهم إنّ الله غفور رحيم (الآية 5 من سورة التوبة، 9، مدنيّة).
ويدرك أهل العلم أنّ فهم مثل هذه الآيات يتطلّب قراءة عالمة تقوم على معرفة دقيقة بمستويات الكلام وأسرار البلاغة، وعلم كافٍ بأسباب النّزول وبالسّياقات التّاريخيّة الحافّة بالتّنزيل ...إلخ وهو ما لا يتوفّر حتما لمن سيكلّفهم الوزير بتنفيذ خطّته المذكورة ومن باب أولى وأحرى ألاّ يتوفّر للأطفال المتلقّين وسينتهي عدد كبير منهم إلى الفهم الحرفي للآيات القرآنيّة وتطبيقها كما يفعل شباب الدّواعش عندما يقدمون على ذبح مخالفيهم وهم يردّدون الآية سابقة الذّكر ومثيلاتها في المصحف ويتوهّمون أنّ الله سيجازيهم في الجنّة لما أتوه ممّا يعتقدون باطلا أنّه تنفيذ تقيّ لأحكامه.
وليس من باب الصّدفة أنّ الإسلام السّياسي المتطرّف اليوم يوظّف هذا الصّنف من الآيات القرآنيّة ويزعم منظّروه أنّ آيات التّسامح منسوخة بآيات الحقد والكراهيّة والحرب.
وقد سبق أن اقترحت، في دراسة قدّمتها أثناء مشاركتي في ندوة علميّة في السّنة الفارطة، إعادة تبويب المصحف إلى بابين نخصّ كلاّ منهما بكتاب، يضمّ الأوّل الآيات المكيّة وهي آيات العقيدة التي تنصّ على جوهر الرّسالة الإسلاميّة الموجّهة إلى الإنسانيّة عموما من ذكر وأنثى والقائمة على التّسامح وإعلاء القيم الإنسانيّة والقبول بالاختلاف العرقي والثّقافي باعتباره أمرا طبيعيّا يندرج ضمن الإرادة الإلهيّة كما جاء في قوله تعالى: «وما كان الناس إلاّ أمّة واحدة فاختلفوا ولو لا كلمة سبقت من ربّك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون». (الآية19، سورة يونس، 10، مكية). بل حتّى الاختلاف الدّيني ليس من شأن البشر البتّ فيه وإنّما هو موكول إلى الله وحده كما جاء في الآية17 ، سورة الحج،22،مكية: «إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصّابئين والنّصارى والمجوس والذين أشركوا، إنّ الله يفصل بينهم يوم القيامة، إنّ الله على كلّ شيء شهيد».
أمّا الكتاب الثاني فيضمّ الآيات المدنيّة وهي آيات التّشريع التي نزلت بعد الهجرة وفي سياق تشكّل الجماعة الإسلاميّة كجماعة سياسيّة ستتحوّل تدريجيّا إلى نواة أولى للدّولة الإسلاميّة، ومثل جميع التّشاريع فإنّ هذه الآيات جاءت مرتبطة بأحداث وظروف وسياقات تاريخيّة متغيّرة ومتحوّلة، لذلك خضعت لآليّة النّسخ في حياة الرّسول (صلعم) أي في فترة استمرار الوحي كما خضعت للاجتهاد بعده انطلاقا من عهد عمر بن الخطّاب واجتهاداته المعروفة. يقول الزمخشري في الكشّاف :» الله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع لأنّها مصالح، وما كان مصلحة أمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم وخلافه مصلحة.»
ومن الطّبيعيّ أن تتأثّر هذه الأحكام بطبيعة تطوّر العلاقات المتوتّرة بين الجماعة الإسلاميّة النّاشئة والقوى المعارضة لها والمتصارعة معها وهو ما يفسّر تلك الآيات العنيفة المحرّضة على القتال والحسم العنيف مع الآخر السّياسي أساسا مثل اليهود الذين تمّ التعامل معهم بصفتهم قوّة سياسية حليفة في مرحلة أولى وقوّة معادية في مرحلة ثانية، ولا اعتبار في ذلك لصفتهم الدينية لأنّ الإسلام يعتبر نفسه مع اليهوديّة والنصرانيّة ضمن نفس المنظومة الإبراهيمية التي يطلق عليها جميعا صفة الإسلام.
ويضمّ هذا الجزء الثاني جميع آيات الأحكام المتعلّقة بالشؤون الدنيويّة من معاملات تجاريّة وعلاقات اجتماعيّة وأحوال شخصيّة، أكثرها أصبح عبر الزمن وخاصّة في عصرنا الحاضر، لاغيا CADUC في جميع البلدان الإسلاميّة مثل أحكام الرق والمؤلّفة قلوبهم وأهل الذمّة وضرب المرأة الناشز، والبعض الأخر مدعوّ إلى الإلغاء، وتمّ ذلك فعلا باستثناء دول الخليج، لأنّه في مخالفة صريحة للمواثيق الدولية التي أصبحت تجرّمه. ويمكن القول إنّ أحكام هذه النصوص بطبعها باتت منسوخة بالزمن وقانون التطوّر بل وبنصّ الرسالة العقديّة المضمّنة في الآيات المكّية وروحها ومقاصدها.
والخلاصة أنّ ما أجمع عليه المسلمون في كلّ العصور من تقسيم لآي القرآن الكريم إلى مكّي عقدي ثابت ومطلق لأنّه يمثّل جوهر الرسالة، ومدني تشريعيّ سياسيّ متغيّر ومتحوّل، يمكن أن يمدّنا بالجواب عن السؤال : أيّ آيات نحفّظ أطفالنا لتربيتهم على قيم الإسلام السّمحة ومصالحة المسلمين مع عصرهم ومجتمعاتهم والمجتمع الدّولي من حولهم، وذلك بالفصل بين هاتين المجموعتين من آيات الذكر الحكيم واعتماد القسم الأول في العمليّة التربويّة على نطاق واسع وترك الجزء الثاني لعناية الباحثين والمتخصصين المتمكّنين من آليات القراءة العالمة. وليس في ذلك أيّ حرج أو مسّ من قدسيّة النصّ القرآنيّ لأنّ جمعه وتبويبه تمّا حسب اجتهاد بشري رعاه الخليفة الثالث عثمان بن عفّان ولم يحظ في وقته بإجماع الصّحابة.
د. مصطفى التواتي (أستاذ بالجامعة التّونسية)