في إحدى القنوات التلفزية مساء يوم الإثنين 24 سبتمبر الجاري، و بقطع النظر عن مدى تطابق هذا الحوار ، مع انتظارات الرأي العام بخصوص الموقف من أزمة نداء تونس و حرب المواقع الآهلة والمهجورة فيه، و الموقف من اضطلاع قائد السبسي الابن بالإدارة التنفيذية للحزب الأغلبي في انتخابات 2014 ، فإنه من المهم التطرق إلى التداعيات المنتظرة لتلك التصريحات على المشهد السياسي العام .
لا يخفى عن المتابع أن الأسابيع الأخيرة شهدت اتصالات عديدة و مكثفة في قصري قرطاج والقصبة ،شملت العديد من ممثلي المجتمع السياسي و النقابي و أهل الخبرة في المجالين الاقتصادي و المالي . و هو أمر عادي في مستهل سنة سياسية جديدة ، و لكن الأمر لم يكن متوقفا على التشاور العادي بل إن ما كان يشغل الرؤساء الثلاثة ومنظمتي الإتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة و التجارة والصناعات التقليدية، و حزبي الأغلبية والكتل النيابية، هو مجريات الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية و السياسية المتأزمة ، في ظل تباين وجهات النظر بخصوص المرحلة المقبلة الّتي تتهيأ فيها تونس للانتخابات التشريعية و الرئاسية الثانية التي ستشهدها الجمهورية الثانية سنة 2019.
هذه الاستحقاقات ،حُشرت هي الأخرى في دائرة شائعات التأجيل و تمديد الفترة الرئاسية، وبقيت مجالا للمساومات والضغط على رئيس الحكومة يوسف الشاهد من طرف حزب النهضة، لحمله على التعهد هو و أعضاء حكومته بعدم الترشح للاستحقاقات القادمة ، مقابل إبقائه على رأس الحكومة .
و أمام تمسّك الشاهد بموقعه على رأس الحكومة و عدم العمل بنصائح رئيس الجمهورية، فضلا عن موقفه الحاسم من نجل هذا الأخير بتحميله مسؤولية تصدّع حزب نداء تونس، تشعب الاصطفاف وراء هذا الطرف أو ذاك ، واستغل حزب النهضة المنافس المباشر لنداء تونس ، الأزمة، للاستفادة منها قدر الإمكان ، وتراءى لزعيمها راشد الغنوشي ، أن الوقت حان، للتنصل من تبعات «سياسة التوافق» وللتخلّص من «توجيهات» رئيس الجمهورية ، فرفض مجاراته في تنحية الشاهد ،و هو ما اعتبره السيد الباجي قائد السبسي فكّا للارتباط بين الزعيمين وإعلانا ضمنيا عن نهاية سنوات عسل التوافق .
في هذا الظرف و في هذا المنعرج الّذي يسبق التهيؤ الفعلي لاستحقاقات 2019 ، أراد رئيس الجمهورية أن يحسم النقاط الّتي يمكن أن تكون قاعدة للتباين مع حزب النهضة و منطلقا للمحافظة على مواقع السلطة و تحويل العوامل التي لعبت ضدّه لصالحه ،و لصالح الحزب الّذي أنشأه و القيام بعمليات قيصرية لرتق أطرافه لو لزم الأمر.
فالإعلان صراحة بأن «النهضة نفضت يديها من الباجي قائد السبسي» على حد تعبير رئيس الجمهورية نفسه ،ليس فقط خيارا للظهور مظهر الضحية ، و إنّما للإيحاء بأن النهضة تستعمل الغير لتحقيق هدفها ثم تتخلّى عمن استعملت لتمر إلى غيره، كي تتمكّن ممّا تريد ، وفي ذلك إشارة لما حصل لحزبي التكتل والمؤتمر ،و كذلك تنبيه إلى مصير من يعوّل عليها ، و هي رسالة مضمونة الوصول للشاهد لتحذيره .
هذا التحذير «الأبوي» يبطن تثبيتا للقول بإستقواء الشاهد بالنهضة و بالدوران في فلكها بدليل دعم النهضة له كي يبقى على رأس الحكومة ،و هو سعي لترسيخ هذا القول لدى الرأي العام لتحويله إلى قناعة .
و لكن لم يكتف رئيس الجمهورية بالتحذير ، فلم يقلع عن تجديد نصح رئيس الحكومة بالتوجه إلى البرلمان مجدّدا لنيل ثقته و تثبيت شرعيته ، بالرغم أن الشرعية قائمة لا تشوبها شائبة إلى اليوم . هذه النصيحة «الأبوية» أيضا ، ترمي إلى وضع النهضة و الشاهد في نفس الزاوية ، فإمّا أن ينال هذا الأخير الثقة بدعم النهضة ويضع مستقبله السياسي على كف عفريت، وإمّا يخسرها، وينتهي مستقبله السياسي ،و في كلتي الحالتين سيقع الخلاص من «الابن السياسي الضال»
إن نصح رئيس الجمهورية لم يوجه إلى الشاهد فقط ، بل إلى المجتمع السياسي و ذلك بدعوته إلى تنقيح الدستور ، و قد أعاد تعهّده بأنه لن يبادر بذلك ،و هم ما يعني أن الأمر يبقى متاحا لثلث أعضاء مجلس نواب الشعب كي يبادروا باقتراح تعديل الدستور حسب شروط لا يتوفّر أهمها حاليا ،و هو الشرط المتصل بعرض المبادرة من رئيس مجلس النواب على المحكمة الدستورية الّتي لم تنشأ بعد، فضلا عن شرط الأغلبية المطلقة للموافقة على مبدإ التعديل وشرط موافقة ثلثي أعضاء مجلس نواب الشعب على التعديل . هذه الشروط صعبة التحقيق، جعلت رئيس الجمهورية ينصح بإرجائها إلى ما بعد انتخابات 2019 مع نصيحة تنقيح القانون الانتخابي و وضع حد للتنقل بين الكتل و الأحزاب.
وفضلا عن التحذير والنصح دافع رئيس الجمهورية بطريقته الخاصّة عن نجله حافظ قائد السبسي و حمّل ضمنيا مسؤولية وضعية أزمة نداء تونس لأعضاء المجلس التنفيذي المؤسسين الّذين خيّروا مواقع أخرى ، مبررا حق نجله في القيادة مثله مثل غيره و بكونه خيّر عدم السعي لتقلّد منصب من المناصب مثل بقية المؤّسسين، وكأنه يريد أن يقول أن بقية
الندائيين المؤسّسين خيّروا المواقع العاجلة ، في حين أن ابنه خيّر التخطيط للمستقبل بحيازة الهيكل.
بهذه الطريقة و بواسطة الحوار المباشر أراد رئيس الجمهورية أن يبعث برسالة مفادها أنه ما يزال يمتلك ذهنا وقّادا، وبأنه ما زال فاعلا في الحياة السياسية. و لكن كيف سيكون موقف النهضة ، الّتي كانت تخيّر دائما أن تتجنّب الواجهة؟ و ماذا سيفعل الشاهد للتخلّص ممّا نسب إليه بخصوص اتهامه بالسقوط في أحضان النهضة، و الحال أنه يريد أن يظهر بمظهر الحداثي الّذي يمتلك مشروعا مغايرا لمشروع النهضة؟
إن كل التوصيفات المتعلّقة بتصريحات رئيس الجمهورية ، لن تمنع بأن تكون لها تداعيات على الحياة السياسية العامّة ، و ستتيح إمكانية تغيير المشهد السياسي ، وأن المراحل السياسية ستزداد غليانا، وستنتهي بتركيب «خلطة» جديدة. وستطفو مجدّدا دعوات تنقيح الدستور والقانون الانتخابي و مسألة المساواة والحريات ، وستكون منطلقا للحملات الانتخابية. و كما رفض رئيس الجمهورية اللّجوء إلى الفصل 99 من الدستور كي يطلب من مجلس نواب الشعب التصويت على الثقة في مواصلة الحكومة لنشاطها ، باعتبارها عملية انتحارية في ظل التوازنات الحالية ، فإنّه من غير المنتظر أن يلجأ الشاهد إلى الفصل 98 من الدستور لعدم وجود ما يلزمه على ذلك ، مثله مثل التعهّد بعدم الترشح لاستحقاقات 2019.
لا شك أنه توجدُ عدّة مخرجات ، لأنه لا جمود في الفعل السياسي ، لذلك ستبقى كل الاحتمالات واردة في الأشهر القليلة القادمة ، يُستبعد أن تبقى الخارطة السياسية على حالها، غير أن إصلاح الشأن الاجتماعي و الاقتصادي، يبقى مصدرا آخر لهشاشة الأوضاع ، الّتي هي في تنافر تام مع «طول حبال السياسة» والّتي يجب ألاّ تغيب عن الأذهان والأعين.