متعثرة بعض الشيء، لكن هذا لا يحجب حقيقة أننا على مشارف خطوة عملاقة تنطلق اليوم، مع انطلاق حملة الانتخابات البلدية، تنتهي بالبلاد إلى تكريس الحكم المحلي وفتح صفحة جديدة للبلاد على كل الأصعدة.
بعيدا عن النقاشات المحتدمة بمجلس نواب الشعب خلال اليومين الأخيرين وما تحمله النقاشات من مضامين قد تكون منفرة لعموم التونسيين والناخبين أساسا ودافعا لهم للعزوف عن الاشتغال بالشأن العام، يبرز بعض الأمل من المحليات، وتحديدا من الانتخابات البلدية.
الأمل مردّه ان البلاد بأسرها تتجه اليوم للقطع مع نموذج حكم قديم، ارتكز على مركزية القرار والفعل والسلطة، إلى نموذج حكم ونظام متناقض كليا معه، وهو نظام الحكم اللامركزية أو كما يحبذ البعض تسميتها الديمقراطية المحلية او ديمقراطية القرب او الديمقراطية التشاركية.
الأمل هنا ليس بتغيير نظام سياسي او القطع نهائيا مع اي إمكانية للانتكاسة والعودة عن الثورة واستحقاقاتها، بل في منح التونسيين آليات الفعل والمشاركة في اتخاذ قرارات تتعلق بجزء هام من مشاغلهم اليومية، وهذا الحق قد لا يعقبه مباشرة تغيير جذري وكلي في المعاش اليومي لأكثر من 10 ملايين تونسي، لكنه بداية التغيير الفعلي والكلي للبلد.
فالتغيير سيكون حتميا، حتى وان قاوم البعض، اذ ان الجميع انطلاقا من اليوم، سيكونون شاهدين على خطوة جديدة في مسار تكريس الديمقراطیة التشاركیة، التي تعني تركيز جملة من الآلیات تمكّن المواطنین، سواء من تنظم في حزب او جمعية أوظلّ خارجهما، من المشاركة في صنع السیاسات العامة في منطقته، وتحديد كيفية إدارة الشأن العام المحلي، ليس فقط عبر الانتخاب بل عبر جملة الإجراءات التي تأتي ما بعد عملية التصويت.
التغيير سيكون ملموسا، انطلاقا من سد القصور والعجز فی إدارة الشأن العام والاحتياجات اليومية من قبل المركز، العاصمة وما تمثله من تمركز للسلطة التشريعية والتنفيذية، ومنح حق وصلاحية إدارة هذه الملفات اليومية إلى البلديات ومن بعدها الجهات والأقاليم. أي أننا نتجه الى إشراك الجميع في عملية تطوير إدارة الشأن العام عبر آليات التدبیر المحلي التي تجسد في عدة اليات منها الى تحديد أولويات المحليات وتبويبها وتوجيه الاعتمادات المرصودة وفق الحاجيات الخاصة بكل محلية.
هنا يمكن تعداد الايجابيات التي تقدمها المحليات والآلیات المجسدة لمبدإ المشاركة في صنع القرار، ولن تكون المساحة كافية لذكرها كلها، لكن يمكن ذكر محاور تجمع بعضها في سلة واحدة، من بينها تشريك المواطنین بدون استثناء، في إدارة الشأن اليومي أي توسيع قاعدة المشاركة وهذا يوفر الكثير.
من ذلك ان النتيجة الحتمية لتوسيع قاعدة المشاركة إفراز طبقة وفاعلين سياسيين جدد، انطلقت خطواتهم من المحليات في اتجاه المركزي، اي من القاعدة الى القمة، وهذه عملية فرز سيكون نتاجها طبقة جد مختلفة عما لدينا اليوم، وان كان تحقيق هذا الأمر قد يحتاج إلى سنوات. هذا ما نتجه اليه، تغيير جذري للمشهد، وان على تدرج سيقع القطع النهائي مع منطق القبلية ضد الدولة، الذي اكتسح كل الفضاءات العامة ومؤسسات الدولة.
ما ستفرزه أيضا عملية التوسيع هي إشراك المواطن في القرار وإدارة المحليات، وسيكون لهذا انعكاس واضح على وعيهم وحس الانتماء، وما قد يفاجئ البعض انه مع ارتفاع نسب المشاركة سترتفع عوائد الدولة من الضرائب، حيث ان الفرد سيزداد استعداده بشكل تدريجي لدفع الاداءات الضريبية طالما انه شريك في عملية توجيه الموارد المالية، بشكل او بأخر. هذا سيتم عبر تشريك المواطنين في وضع المیزانیة، اي تمكين الناس من تقرير كیفیة تخصیص جزء من المیزانیة البلدية بما ينعكس بشكل مباشر وملموس على الواقع اليومي للمواطنین.
اليوم نحن جميعا أمام فرصة لإحياء الأمل، لوقف انهيار الدولة وتكالب الجماعات عليها، امام فرصة ادارة الدفة لوجهتها الصحيحة لحل جملة الازمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقيمية...، نحن اليوم امام حتمية الأمل.