و بدأ العد التنازلي لحلول الموعد الّذي تأخر كثيرا ، و تحوّل إلى إستحقاق محوري منتظر في مسار التجربة الديمقراطية التونسية.
ولكن رغم أهمية هذا الاستحقاق في تقييم مسار تونس ، فإن المجتمع السياسي الدّاخلي بدا غير متحمّس لخوض الانتخابات الأكثر التصاقا بالشؤون اليومية للمواطنين.
غياب هذا الحماس ليس بسبب التمطيط المملّ الّذي جعل الناس يفقدون نكهة التنافس فقط، بل يبدو أن الخوف الجاثم على معنويات مختلف التشكيلات السياسية، كان له تأثير بالغ في عملية استكمال الانتخابات المحلية ، لذلك شهدنا كل العراقيل والتبريرات على مستوى التشريع و على مستوى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والهياكل الرقابية الأخرى.
هذه المخاوف تفاقمت بعد الانتخابات الجزئية بألمانيا بسبب اتخاذ نسبة المشاركة في العملية الانتخابية و نتائجها، معيارا ، في تقييم التحالف بين حزبي النهضة ونداء تونس و في سبر ميداني لتوجهات ومواقف القاعدة الانتخابية .
هذه التجربة الجزئية و لو أنها لا يمكن تحميلها أكثر ما تحتمل ،فقد شكّلت «رجّة» أفاقت الأحزاب السياسية من غفوتها ، و تمّ استغلالها من بعض الندائيين في سعي إلى إعادة توزيع الأوراق ومراجعة الحسابات.
إن الحقيقة الّتي تخفيها كل التشكيلات السياسية تكمن في عدم جاهزية أي حزب لخوض الانتخابات البلدية بسبب انعدام القدرة على تعبئة القواعد الانتخابية في الفترة الراهنة بسبب فقدان الثقة في النخب السياسية و الإفتقار إلى تقديم بدائل مقنعة وضعف الإمكانيات و العجز عن استعادة حماس المواطن في المشاركة في عملية التغيير.
ولئن سعى حزب النهضة إلى ترتيب أموره فإن بقية التشكيلات السياسية بدت غير واعية بأهمية الاستحقاق و صعوباته و اتضح أنها لم تقم بقراءة جادة للخارطة الانتخابية، بما في ذلك حزب نداء تونس الّذي اتضح أنه كان غارقا في شؤونه الدّاخلية، ولم يكن يمسك بكل المعطيات الحقيقية، وانخدع بعض « كوادره » - من مدّعي أصحاب الحنكة السياسية - بنتائج سبر الآراء ، الّتي حوّلت أنظارهم عمّا يحصل من تغيّرات في القاعدة الانتخابية، فغالطوا أنفسهم وقادتهم بالاطمئنان لأسبقيتهم «النظرية» في الاستحقاقات المنتظرة.
لم ينتبه السياسيون إلى تداعيات التمطيط والتسويف و الانقسامات و التشرذم والمعالجة الفوقية للمشاكل ، كما ضخّم التوافق الشكلي في الضمانات السياسية صلب قواعد حزبي الأغلبية الشريكين في السلطة و غيّب الفوارق الفكرية والسياسية.
إثر هذا الامتحان الّذي أسقطه الندائيون أنفسهم إسقاطا في غمار تداعيات أزمة حزبهم ، تعالت بعض الأصوات للدعوة إلى فك الارتباط بين النهضة ونداء تونس أو إلى تشكيل جبهة تقدمية دون امتلاك نظرة إستراتيجية لسياسة المستقبل، وبدوا وكأنهم اكتشفوا كل الحقائق اليوم والحال أنهم كانوا يتجاهلون هشاشة تقاربهم وتوسع مسافات بعدهم عن إنتظارات الشارع.
لم يبحث أي طرف عن سبب عـزوف الشاب وجانب كبير من التونسيين عن العمليات الانتخابية رغم أن كل المؤشرات كانت تبيّن تسرّب الملل و عدم الاقتناع بالمشاريع والشعارات و الأداء في نفس الوقت .
المؤكد أنه رغم الإعلان عن موعد الانتخابات فإن الأحزاب السياسية تبدوا خالية الذهن من متطلبات الانتخابات البلدية وغير متمكّنة من جزئياتها و تفاصيلها، و لا تبدو مستعدّة لخوضها ، و لا غرابة أن يثور الخلاف مجدّدا لمزيد تعطيل صدور مجلّة الجماعات المحلية ،كي تكون سببا لتعطيل للانتخابات، خاصّة إذا قرّر كل طرف الدفاع عن رايته منفردا.
لقد لاحظنا غياب حرارة ترحيب عدد كبير من الأحزاب والرأي العام المسيّس، بإعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن تاريخ 17 ديسمبر 2017 موعدا للانتخابات البلدية (المغرب 16 /4 /2017) و لا نرى اليوم حرارة في استقبال الإعلان عن موعد جديد ، الأمر الّذي يدفع إلى عدم الارتياح.
بدل حرارة الاستقبال ، نعاين كشفا للحسابات و السياسات و حرقة في قراءة النتائج . إن التفطّن إلى عــزوف الناخبين والخوف من آثاره في قادم الاستحقاقات أرجع حزبي الأغلبية ، إلى مربّع تقييم التوافق والارتباط بينهما ، و قد كانا بالأمس القريب رافضين لأي قراءة جادّة و واقعية للأوضاع ، غير عابئين بمخاطر التعطيل و التأجيل ، كما هدهد بقية التشكيلات الحزبية الغارقة في الخيلاء أو المزهوة بغفوتها ،لذلك يصح القول للجميع «صحة النوم»...