قهوة الأحد: لست زنجيّكم ! I am not your negro

شهدنا في الأيام الأخيرة حدثين هامين اهتمت بهما وسائل الإعلام وأعطتهما الأولوية في التغطية الصحفية.

ولم يقتصر هذا الاهتمام على المستوى الصحفي والتغطية الإعلامية بل شغل الحدثان المسؤولين السياسيين والمؤسسات الدولية وكانا محط أنظارها إلى اليوم.وسيكون لهذين الحدثين تداعيات هامة على المستوى السياسي خلال الأسابيع والأشهر القادمة – والذي يهمني في هذا المقال هو الحديث عن الدوافع والأسس الثقافية والفكرية التي تجمع هذين الحدثين
الحدث الأول يخصّ الأخبار التي قدمت من الشقيقة ليبيا حول الرق وعودة أسواق العبيد.كان الخبر بمثابة الصدمة لا فقط لنا وبل كذلك لعديد الأصدقاء الليبيين.أثار هذا الحدث الكثير من الحبر والتعليقات الرافضة والغاضبة من دول العالم والمؤسسات الدولية.فكيف يمكن لنا أن نقبل عودة هذه المظاهر التي خلناها زالت وانتفت منذ عقود ؟ وقد قامت عديد المحطات

التلفزية والجرائد بتقديم بعض الصور والتي أخذت من هذه الأسواق وكلها تشير إلى المظاهر المشينة لمعاملة الأفارقة الموجودين في ليبيا من قبل بعض المليشيات – وأشارت هذه التقارير إلى التعذيب والمعاملات اللاانسانية التي يتعرض لها النازحون الأفارقة هناك.

هذه الفضيحة وهذا الحدث المزري وبالرغم من شجبه من عديد الدول العربية والمنظمات الإنسانية فانه أشار إلى جانب من المسكوت عنه في علاقتنا بالآخر في حضارتنا الإسلامية والعربية.والى الآن وبالرغم من منع الرق في بلادنا منذ منتصف القرن التاسع عشر فقد أشارت عديد المنظمات المدنية إلى النظرة الدونية الموجودة إلى السود في بلادنا وفي عديد البلدان العربية الأخرى وطالبت بتغيير هذه النظرة ودحر هذا الموقف العنصري تجاه الآخر.

الحدث الثاني يخص قرار الرئيس الأمريكي ترامب بتحويل السفارة الأمريكية إلى القدس واعتبارها عاصمة لإسرائيل.وقد أثار هذا القرار الاستفزازي الكثير من المظاهرات والغضب الشعبي لا فقط في مختلف البلدان العربية بل كذلك موجة من الاستنكار في العديد من بلدان العالم والحكومات الغربية والمنظمات الدولية.واعتبر العديد من المتابعين والخبراء أن هذا القرار سيفتح باب جهنم في المنطقة العربية وسيزيد من حالة الاحتقان والعنف وعدم الاستقرار التي تهيمن على منطقتنا منذ سنوات.

وهذا القرار يلتقي في رأيي مع الحدث الأول كونه يحمل في طياته نظرة دونية للآخر ورافضة لحقوقه السياسية وضاربة عرض الحائط بأحلامه وآماله في العيش الكريم.

أسوق هذه الملاحظات عن هذين الحدثين المفصليين في عالمنا اليوم وأنا بصدد الانتهاء من قراءة كتاب هام لأبرز الأدباء والمفكرين الأمريكيين وهو جيمس بلدوين James Baldwin بعنــــوان «لسـت زنجيكــم» أو «I am not your negro» والصادر في طبعة جديدة عن دار النشـــر الفرنسيــــة روبـار لافـون Robert Laffont منذ أيام بباريس.
والكاتب جيمس بلدوين ذو الأصول الإفريقية يعتبر من أهم الكتاب والمفكرين الذين انتقدوا التناقضات العرقية والجنسية والاجتماعية في المجتمع الأمريكي.وقد ولد الكاتب في حي هارلم في مدينة نيويورك سنة 1924 حيث عاش حياة الحرمان والفقر والتهميش في هذه المدينة والتي ستكون موضوع رواياته ومسرحياته وأشعاره وكتبه السياسية الناقدة والعنيفة ضد هذه المظاهر وخاصة ضد التمييز العنصري.وسيبدأ رحلة الكتابة منذ المدرسة الابتدائية من خلال مجلة المدرسة- إلا أن نبوغه وسعة معرفته وقيمة كتاباته لن تمنع الملاحظات العنصرية ورفض زملائه البيض له ليكتشف منذ سنواته الأولى نظام التفرقة العنصرية.

وسينتقل بلدوين في سن الخامسة عشرة إلى حي قرينويش فيلج Green village أين يعيش الفنانون والمفكرون في مدينة نيويورك حيث ستربطه صداقات كبيرة مع أهم المبدعين في تلك الأيام كالممثل الكبير مارلون براندو والذي سيتقاسم معه نفس البيت في بداياته.
إلا أن جيمس بلدوين سيضيق ذرعا بالاعتداءات العنصرية وسيقرر في سن الرابعة والعشرين في إحدى الليالي عندما رفضت له نادلة حق الدخول إلى أحد المطاعم الرحيل عن الولايات المتحدة للذهاب إلى فرنسا والاستقرار هنالك إلى مماته في ديسمبر 1987 وهو في سن 63 سنة.

وقد ترك العديد من الروايات من أشهرها «Conversion» والتي يعتبرها الكثير من النقاد سيرته الذاتية و«Harlem Quartet» و«Si beale pouvait parler» والتي قامت عديد دور النشر الفرنسية بإعادة نشرها منذ أيام بمناسبة مرور ثلاثين سنة على رحيله.والى جانب رواياته ومسرحياته ومقالاته السياسية كتب جيمس بلدوين الشعر وتغنى بكلماته وأشعاره أهم مغنيي الجاز الأمريكيين كـNina Simone وJosephine Baber وMiles Davis Ray Charles وضمن هذه المسيرة الأدبية والفنية والفكرية التي جعلت من جيمس بلدوين أحد أهم المفكرين الأمريكيين يحظـى كتابـه «لست زنجيكـــم «I am not your negro» والذي تمت إعادة إصداره من جديد بأهمية خاصة.وقد بدأ الكاتب في تحرير

هذا المؤلف المهم في السنوات الأخيرة قبل وفاته وحاول من خلال تقديم صورة لأصدقائه المناضلين ضد التمييز العنصري والذين تم اغتيالهم وهم Medgar evens ومارتن لوثر كنغ وMalcolm X فهم وقراءة الأسس والأسباب الدفينة للتمييز العنصري في المجتمع الأمريكي.

وأعاد المخرج Raoul Peck منذ أشهر هذا الكتاب الى دائرة الضوء من خلال إخراج شريط هام بعنـوان «I am not negro» حول جيمس بلدوين وقراءته لأسس نظام التمييز العنصري في المجتمع الأمريكي.ولم يكتف المخرج بتقديم الكتاب وفكر جيمس بلدوين بل غاص كذلك في تاريخ نضالات السود ضد هذا النظام والماسي التي عاشوها في سنوات القهر والحرمان والعذاب امام الة الرفض العنصري التي سادت وهيمنت على المجتمع الامريكي لسنوات طويلة- وقد عرف هذا الفيلم الوثائقي نجاحا كبيرا على المستوى العالمي وحصل على عديد الجوائز في الكثير من المهرجانات وقد ساهم هذا الفلم في إعادة الكاتب جيمس بلدوين وتحاليله العميقة إلى دائرة الضوء لتعود دور النشر في العالم للاهتمام به وإعادة إصداره وليحظى من جديد بالكثير من التحاليل والتغطية الإعلامية والفكرية.

والفكرة الأساسية التي يدافع عنها الكاتب في هذا المؤلف أن فكرة الزنجي والنظرة الدونية التي صاحبتها في التاريخ العنصري الأمريكي كانت ضرورية وأساس هيمنة الأنا وسيطرة الإنسان الأبيض وبناء أسطورة صفائه وذكائه وقيادته في المخيال الجمعي للمجتمع الأمريكي.
يقول جيمس بلدوين في افتتاح هذا الكتاب الهام «ما فعله البيض وما يجب أن يتساءلوا عنه في داخلهم هي حاجتهم لصورة «الزنجي أو «الأسود».لأنني لست زنجيا – لست زنجيا لأنني إنسان قبل كل شيء لكن إن فكرتم أنني زنجي فاعتقد أن ذلك لحاجتكم الدفينة ان يكون لكم زنجي»

وسيحاول جيمس بلدوين من خلال هذا المؤلف البحث في أهمية وجود «الزنجي» أو الآخر في المجتمع الأمريكي والتي ستشكل أساس نظام التفرقة العنصرية في النظام الأمريكي.ويؤكد في هذا الكتاب أن عملية البناء التاريخي لفكرة الزنجي وإعادة إنتاجها عبر العقود المتتالية كانت ضرورية لمحو الجرائم التي قام بها البيض ضد سكان الأرض الأصليين من الهنود – وصورة الزنجي الوحشي والعشوائي والعنيف كانت ضرورية لتفسير أهمية وضرورة هيمنة الآخر أو الإنسان الأبيض على المجتمع الأمريكي لغرض حضارة أخرى ولإخراج المجتمعات الإنسانية من العنف والاستبداد الذي لولاها لكان أفق تطور البشرية.

هذا السرد التاريخي لحركة المجتمعات البشرية الذي ساهم فيه بعض فلاسفة الحداثة ساهم في كتابة مشروعية المجتمعات الرأسمالية وفي هيمنة الإنسان الأبيض وبصفة خاصة في قبول مخزون العنف الذي حملته المؤسسات الرسمية في الدفاع عن الفوارق الاجتماعية والسياسية والجنسية وإعادة إنتاجها عبر التاريخ. كما لعب هذا السرد دورا أساسيا في تفسير دونية الآخر في الذاكرة الجمعية وضرورة وأهمية قمع تطلعاته من خلال الاستعمار القديم أو أشكال الهيمنة الاستعمارية الجديدة والتي ستمكنه من الخروج من دائرة العنف والاستبداد والهمجية والدخول إلى دائرة الحضارة والتحرر والانعتاق .

يقوم بلدوين بقراءة نقدية راديكالية لهذه الأفكار في كتابه الهام يؤكد على ضرورة الخروج من مخيال الهيمنة الإيديولوجية للإنسان الأبيض والمجتمعات الرأسمالية ويؤكد أن القطع مع هذا الموروث لن يكون إلا مع انتصار مبادئ الديمقراطية والحرية والعدالة والتعدد.

لا يمكن لنا ونحن نعيش عودة الرق في بعض البلدان ونفي الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني أن ننسى تحاليل وقراءات عديد المفكرين ومن ضمنهم جيمس بلدوين .هذه الأحداث المرة والفاجعة والاعتداءات اليومية على إنسانية الآخر لا يمكن إلا أن تزيدنا إصرارا على ضرورة القطع مع السائد ورفض الموروث الفكري الذي يشرع لهيمنة الأنا ودونية الآخر .ما تحتاجه مجتمعاتنا اليوم هو الانتماء إلى فكر انساني جديد يؤمن بتعدد واختلاف التجربة الإنسانية ويفتح إلى مرحلة سياسية جديدة تحترم إنسانية الآخر وتضمن حقوقه الوطنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية كي لا نكون كما قال بلدوين زنوج العالم الاتي .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115