حزبه.. وعندما يسمح النائب أو النائبة لنفسه بشتم زميله أو زميلته.. وعندما تتحوّل قاعة المجلس إلى «حمّام تسيّب فيه القطوس».. كيف لي أن أملك غيظي وأنا أستمع إلى تدخّل النوّاب وهم يقدّمون دروسا في الوعظ والإرشاد ، نوّاب ونائبات يعتبرون أنفسهم من الفرقة الناجية ومخالفيهم من الضالين.. كنت يوم الأربعاء وأنا منغمسة في هذه المشاهد أبكي وطني الذي نهشوا لحمه، وبقطع النظر عن القضية المطروحة، فقد هانت عليهم جميعهم تونس، بل اندفعوا يمثّلون بجثثنا.. وداسوا الديمقراطية بأرجلهم دوسا.. وصار هذا الشعب بين أيديهم مثل برق الليل في قصّة خريف..
تيقّنت للحظات أنّ البلاد لن يستوي حالها.. وأنّنا مازلنا ننفخ في قربة مقعورة.. فتبّا لمن خضع لمقايضة تبيع المبدأ والعباد.. وتبّا لمن سارع إليها ودخل في منظومتها.. اليوم تتفقون على تمرير قانون يشمل الغثّ والسمين، الصالح والطالح، قانون مليء بالأفخاخ التي لن تزيدنا سوى همّا على همّ.. وما أسرع تعليلاتكم التي تناشد تجربة غيرنا من الشعوب!! عجبي عندما يستشهد بعضهم بتجربة إفريقيا الجنوبية وقد أسقط من كلامه شرطا أساسيا لاكتمال المصالحة ، شرطا قام على «العفو من أجل الحقيقة»، أي المحاسبة والاعتراف بالذنب باعتبارهما شرطين واجبين لاكتمال المصالحة.. لماذا تجاهلتم في تحاليلكم قرار المحكمة الدستورية بجنوب إفريقيا بحقّ الضحايا في استشارتهم قبل منح العفو ؟ هل إنّ الضحية في تونس ممحوقة لا ترتقي إلى مستوى بقية ضحايا العالم؟ وليس لها حتى أن تعبر جسر العنف والظلم الذي تعانيه، فيظلّ الفاسد منتصرا حتى في لحظات إدانته.. رجاء كفاكم لعبا على الذقون..فأين أنتم من تجربة البلدان الأخرى؟
لذلك أقول عن يقين: تصدّرتم للقرار نيابة عنّا.. لكن هل تضمنون اقتناع الشعب بهذا القانون؟ أخشى ما أخشاه هو أن يخرج الشعب عن قرار الدولة ويسعى إلى القصاص لنفسه، وعندئذ تتحوّل بيوتنا إلى غابة شرسة.. أخشى أن يتسرّب اليأس إلى النفوس ويدرك الضحايا مدى التفرقة الاجتماعية التي يرزحون تحتها.. وعندئذ فلا ضمان ولا أمن.. فهل ضمنتم المصالحة
مع الشعب؟؟؟ هل تطمئّنون حقّا إلى أنّ الشعب سيحفظها ويقبل من عفوتم عنهم، و سيتعايش مع من قبض مال العفو التشريعي في أمن؟؟؟ أهكذا نبني مستقبل تونس الهانئ !!!! هل تصدّقون فعلا أنّكم وضعتمونا نحن عامّة الناس في القالب الذي جهزتموه لنا؟؟؟؟
علينا أن نضع الألفاظ في سياقها: لقد تعللتم بأنّ مصالحة هؤلاء تكمن في أنّ ذنبهم كان في التزامهم بأوامر النظام ، وعلى هذا الأساس يجب التراجع في اعتبار أنّ ما قاموا به ذنبا ، بل هو صنيع محمود في الوظيفة العمومية، فالموظّف مطالب بطاعة رؤسائه.. ولم لا نعتبر أنّ من خالف أوامر النظام السابق مذنب ومتقاعس، و يحمل على جريرته ؟ نحن باختصار نُعاقب لأنّنا كنّا فوق الفساد.. نعاقب لأنّنا كنّا سدّا منيعا وشوكة في حلق هؤلاء، رغم ما كان يتهدّدنا من أفانين في العقاب.. نعاقب لأنّنا لم نطمع في تسمية ، ولم نجر وراء امتياز.. نعاقب اليوم لأنّنا لم نخش أن يفلت منّا منصب.. نعاقب لأنّنا كنّا على يقين بأنّ كلّ حافز يخفي مضرّة هي لاحقة لا محالة بمؤسّساتنا.. أليست هذه هي المعاني التي يتضمّنها الفصل 96 من المجلّة الجزائيّة؟ ولأنّنا رفضنا أن يستعملنا النظام السابق أدوات في ممارسة فساده ها نحن اليوم نُجازى أجمل جائزة.. كوني على يقين سيدتي النائبة وسيدي النائب أنّ هؤلاء منتشرون في جميع الوزارات والبنوك.. ينتظرون لحظة التبييض حتى ينطلقوا مسرعين لإرضاء أولياء أمر جدد..
ومع ذلك أنبّه: أنّنا لسنا ضدّ المصالحة، لكنّنا نطلب مصالحة ترتضيها المجموعة الوطنية، ومصالحة تبادر الضحيّة وليس من تقدّم نيابة عن الضحيّة. لأنّه ليس من حقّكم أن تشعروا بدلا عنّا، وحتى نضمن صفاء العلاقة بين المعتدي الفاسد والضحية يجب أن تطمئنّ الضحية.. تطمئنّ على حاضرها وعلى مستقبلها، وخاصّة تطمئنّ إلى أنّ الفاسد خلع عن اقتناع جبّة الفساد.. وهذه مسألة تجاهلتموها، إن لم أقل اجتنبتم الحديث فيها.. هذه بعض الهواجس التي تتعارك في ذاكرة الجسد الاجتماعي الذي أهدر حقّه.. فهل هي هواجس مشروعة؟
لست أدري.. و لكن ، كلّ ما أدريه أنّنا نغرق في خانة من العفن.