تحليل إخباري: منتصف أوت الساخن للغنوشي وقائد السبسي الردّ المناسب في الوقت المناسب ؟

في ظرف حوالي نصف شهر كشف زعيم حزب النهضة السيد راشد الغنوشي في أول أوت 2017 و قائد مؤسّسي حزب نداء تونس رئيس الدولة السيد محمّد الباجي قائد السبسي في 13 أوت من نفس الشهر ، عن طريقة «دخلة» السنة السياسية الجديدة الّتي ستكون على مشارف استحقاقات انتخابية هامّة .

ضربة البداية كانت بيد زعيم النهضة الّذي كشف الصورة الجديدة الّتي أراد تسويقها في الدّاخل والخارج ،عبر حوار متلفز خلص فيه الغنوشي، إلى وضع الأنموذج التركي في المحصلة و إشهار « ربطة العنق» الماليزية في واجهة جديدة أراد بها الترويج لتجربة اقتصادية محافظة على «مبادئ الإسلام» ومحقّقة لنهضة اقتصادية أبهرته . و كان كل ذلك في إطار «لوحة» أخذ فيها الغنوشي من كل شيء بطرف، وسعى فيها إلى الإستحواذ على كل ما حقّته التجربة التونسية ، و مستوعبا لمختلف الانتظارات، واضعا نفسه في طليعة السياسيين المنجزين و المجدّدين الحريصين على مصلحة البلاد و الماسكين بالحكم و الغيورين على هيبة مؤسسات الدولة وشخصياتها ، مبوّبا شخصه في طليعة «حراس الثورة «المنتقدين و المراقبين و الموجهين للحكومة و المحذرين من كسر «التوافق» والمتطلعين أخيرا للعب الأدوار الأولى في الإستحقاقات المقبلة .

بهذا التعجيل في إلاعلان عن نواياه من جهة و في الحكم على نوايا الشاهد و السعي للتحكم فيها من جهة أخرى ،أراد الغنوشي أن يوجّه رسالة مباشرة أولى لأتباعه والى بنات و أبناء حزبه ليذكرهم بأنه يبقى صاحب القرار و ربان سفينة النهضة و الماسك بمختلف حبال شراعها ، دون أي قراءة لتبعات موقفه على مستوى حزبه و على مستوى الرأي العام .
و وجه رسالة ثانية في إتجاه نداء تونس و رئاسة الجمهورية ،تعمّد فيها تجاوز لهجة التوافق والمهادنة ، ليسمح لنفسه بمطالبة الشاهد بعدم التفكير في مستقبله السياسي و بثنيه ضمنيا عن مواصلة خطوات محاربة الفساد وذلك لإرباكه و سحب البساط من تحت قدميه ليمحو أي مكسب له ، و لمزيد تأليب الندائيين عليه، و لكن دون التفكير في رد فعل خصومه السياسيين .

لم يرد رئيس الجمهورية على الغنوشي في الحين ، و لكن لم يأخذ وقتا طويلا لإختيار الرد المناسب، إذ استغلّ مناسبة عيد المرأة يوم 13 أوت 2017 ليعجّل بما لم يكن ينتظره أحد ، فقلب المعادلات و فرض بطريقة غير مباشرة «غربال فرز» لكل المقاربات السياسية و سعى بذلك إلى تعرية المواقف الضبابية والمهادنة ، موجها ضربة صادمة لأصحاب خطابات أنصاف الحلول أو المختبئة وراء «العموميات» والشعارات الفضفاضة.

و إختيار موضوعي القرين غير المسلم و الميراث بالأساس كمحرار مزدوج لسبر أغوار كل التيارات السياسية والفكرية ، كان بمثابة الإعلان عن خوض معركة جديدة ضد بعض المُسلّمات في جانب هام من العقلية التونسية السّائدة، لدى النساء و الرجال على حد سواء و لو بدرجات متفاوتة.
هذا الموضوع لم تقع إثارته لأوّل في تونس بل سبق أن تمّت ملامسته في أكثر من مناسبة و منها في منتصف الثمانينات و أخرها بعد جانفي 2011 ،و لكن لم تُطرح من أعلى هرم السلطة ، أو بمبادرة عملية و صريحة تهدف إلى مراجعة المنظومة القانونية الّتي لا تتلاءم مع روح الدستور و الإتفاقيات الدولية الّتي انخرطت فيها تونس، العاكسة في جوهرها للقيم الإنسانية المتقدّمة .

و قد كان إقرار المناصفة في مجال التمثلية الإنتخابية ، مثلها مثل محاولة تمرير فكرة الدور المكمل للمرأة ،بداية مرحلة ما بعد جانفي 2011 ، رغم انهما شكّلا في نظري تكريسا مبطنا لدونية المرأة ، و محاولة لطمس حقيقة النقاط الخلافية حول مكانة المرأة و دورها في المجتمع. و لكن هذا يقيم الدّليل على أن التفكير فيما إقترحة السبسي ليس وليد اليوم ، و لكن الجديد ، هو بروز الإرادة السياسية و التعبير عنها ، لتجاوز إشكال ممارسة الحرية الذاتية بخصوص معتقد القرينة و القرين و آثاره الإعتبارية و المادية (في الإرث أيضا)، وبخصوص التمييز بين المرأة والرجل في الميراث، الّذي بقي يشكّل حيفا في تمتع المرأة بحق كامل من حقوقها .

فالمسألة ليست من منطلق ديني و ليست بغاية المس من جوهر العقيدة ، وإنّما تندرج الدعوة للمراجعة في مقاربة اجتماعية اقتصادية مرتبطة بممارسة الحرية الفردية في إرتباط بالدور الّذي تؤديه القوى الإجتماعية في المجتمع والدولة على قدم المساواة بنفس الجهد و بنفس نسبة المساهمة .

لأهمية مقترحات رئيس الجمهورية برزت دعوة قائد السبسي في خطاب 13 أوت 2017 و طغت على ما جاء في حوار الغنوشي ، الّذي قد يجعله يندم على ما أثاره حواره المستفز و يعطي مبرّرا لإنتقاد معارضيه له، خاصة إذا كانوا يعتقدون ، أن ما أقدم عليه السبسي ما كان ليكون لولا بث ذلك الحوار الإستفزازي و المكابر .

بل أن الأمر لن يتوقّف على إنتقاد قيادات النهضة و مناضليها للغنوشي بسبب عدم تشاوره معهم و لتسرّعه فقط ، و إنّما سيقع تجاوز ذلك لتحميله مسؤولية وضعهم أمام خيارات صعبة في ظرف حسّاس يتعلّق بنصف المجمتع ،و بمسألة تتعلّق في نظر جلّهم بتطبيق نصوص شرعية تفرض عليه الدفاع عن نصوص الشريعة تجاه مدّ يتطلب تطبيق مقتضيات الدستور و متطلبات احترام قيم الدولة المدنية الحداثية. كما سيحملونه مسؤولية الخسارة السياسية الّتي ستلحقهم بسبب موقف حليفه الأكبر في التوافق الّذي سايره فيه ، وفي تبعات ذلك مستقبلا على المستوى القاعدي للنهضة من جهة ، ومن جهة أخرى ،على مستوى التشكيلات الحليفة أو المقرّبة منها، الّتي يبقى موقفها مرتبطا - تقاربا أو تباعدا- بموقف زعيم النهضة و مجلس الشورى المتناغم معه إجمالا لحد الآن.

كل هذه التفاعلات السريعة الّتي شهدها المنتصف الأوّل من شهر أوت السّاخن بكل المعاني ، تجعل االمتابعين ينتظرون صدور الموقف الرسمي لحركة النهضة و ردّ فعلها ليتبيّنوا ملامح السنة السياسية الجديدة الّتي ينتظر أن تكون هامة و فارقة بكلّ المقاييس .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115