قهوة الأحد: وجوه من الإبداع I - رضا الباهي: بين شاعرية الإبداع ومتطلبات النضال

مسالة خصوصية تجربتنا السياسية والتاريخية أثارت اهتمام السياسيين والمفكرين على مدى عقود طويلة.وقد أكدت عديد الدراسات انه بالرغم من انتمائنا إلى المحيط العربي الإسلامي فان لتجربتنا التاريخية عديد الخصوصيات التي تجعلها فريدة ومتميزة عن تجارب الآخر- وقد ذهب عديد المدافعين عن خصوصية تجربتنا إلى الكثير من المغالاة لدرجة

التأكيد على اختلافها الجوهري مع البلدان العربية والإسلامية وتكويننا «لأمة» مختلفة تمام الاختلاف عن البلدان الأخرى.

ولئن رفض عديد الباحثين مقولة «الأمة التونسية «وأكدوا على انتمائنا العربي الإسلامي فأنهم أشاروا كذلك إلى عديد العوامل التي تعطي لتجربتنا نكهة خاصة ومسار مختلفا.
ولئن خفت الحديث عن خصوصية تجربتنا بعض الوقت فانه عاد ليبرز على السطح في السنوات الأخيرة بعد الثورة.فقد أكدت الدراسات على هذه الفكرة لتفسر الجانب السلمي لثورتنا وعدم انصياعها كالثورات الأخرى في العنف وسقوطها في حروب مدمرة.كما أشارت كذلك عديد الدراسات إلى هذه الخصوصية لتفسير تطور الإسلام السياسي في بلادنا إلى مواقف أكثر وسطية مقارنة بعديد البلدان الأخرى.

ولعل أهم دراسة علمية تم انجازها لقراءة وفهم خصوصية تجربتنا التاريخية هي الكتاب الصغير في حجمه لكن الهام في محتواه والذي أصدره المؤرخ والأستاذ الجامعي الهادي التيمومي تحت عنوان «كيف أصبح التونسيون تونسيين» منذ مدة عن دار النشر محمد علي .وقد قام التيمومي في هذا الكتاب بقراءة تاريخية هامة لمراحل تشكل الشخصية التونسية وللعناصر الأساسية التي ساهمت في بنائها.ومن ضمن هذه العناصر يمكن أن نشير إلى أهمية الحركة الإصلاحية والفكر الإصلاحي في بلادنا وتأثر الحركة الوطنية بالفكر الحداثي وفلسفة الأنوار.كما ساهمت سياسات دولة الاستقلال وتعميم التعليم وتحرير المرأة في دعم ملامح الشخصية التونسية.كما كان للمجتمع المدني وحركيته واستقلاله عن السلطة مساهمة في هذا البناء.
إلا أن اغلب الدراسات لم تعط في تقديري الأهمية الكافية للإبداع الفني والثقافي في نحت شخصيتنا وتفردها.فقد عرفت بلادنا حركة فنية وثقافية وإبداعية ساهمت منذ عقود في إثراء لا فقط المشهد الفني بل كذلك في تكوين وتدعيم خصوصية الذات وتفردها. وقد تواصل هذا الإرث الإبداعي مع الدولة الوطنية وظهرت حركات فنية وثقافية في جميع مجالات الإبداع كالمسرح والسينما والرسم والشعر والقصة وغيرها من مجالات الإبداع.وقد لعبت هذه الحركات الفنية دورا كبيرا في القطع مع السائد ومع الموروث الثقافي التقليدي وفي بناء مشروع ثقافي جديد قوامه التعدد والاختلاف والقراءة النقدية للواقع السياسي والاجتماعي.وساهمت هذه الحركة الإبداعية في دعم تفرد وخصوصية تجربتنا التاريخية وتأكيد المشروع المدني ومبادئ المواطنة والتوق إلى الحرية والديمقراطية لتكون ثورتنا إحدى نتاجات هذا المشروع الإبداعي والثقافي.

ولإنارة هذا الجانب من تجربتنا الإبداعية سأخصص بعض المقالات والمساهمات في قهوة الأحد لمساهمة الفن والفكر بصفة عامة في نحت هويتنا من خلال تقديم بعض الوجوه الفاعلة في هذا المجال – ولن يكون هذا التقديم كلاسيكيا بل سيكون حميميا يلتقي فيه الجانب الذاتي بالجوانب الهامة في التجربة الإبداعية والفنية من خلال لقاءات مع هؤلاء المبدعين للنبش في ذاكرتهم ومخيالنا الجمعي والذي كانوا من ابرز نحاتيه.

الاستضافة الأولى ستكون مع الصديق والمخرج الكبير رضا الباهي والذي تحصل فيلمه الأخير «زهرة حلب» على نجاح كبير والذي يستعد وهو في السبعين لإعداد فيلمه الجدي بنفس الحماس ونفس الشوق كما فعل ذلك مع شريطه الأول « العتبات الممنوعة» من خمسين سنة خلت.

والحديث مع رضا الباهي شيق وممتع ومهم.فالرجل هو إحدى هامات الإبداع لا فقط في مجال الإخراج والكتابة السينمائية بل كذلك في المجال الثقافي – وقد شكل لنا الشباب الرافض والناقد لمشروع الدولة الوطنية الاستبدادي مربعا هاما في نفخ روح التمرد والثورة والأمل إلى جانب العديد من السينمائيين الاخرين كالطيب الوحيشي وعبد اللطيف بن عمار وفريد بوغدير وسلمى بكار والناصر خمير وغيرهم في أجيال عديدة من أحباء السينما ومن الشباب المثقف بصفة عامة.

وقد كان هاجس رضا الباهي الفكري والثقافي هو العلاقة مع الاخر – وساهم في نبش هاته العلاقة بين الأنا والآخر بجوانبها المعقدة ليساهم في تقديم جدلية التأثر والانفتاح مع الرفض والتنافر.وقد أثثت هذه العلاقة الجدلية اغلب اعمال رضا الباهي وشكلت الخيط الرابط بين جل محطاته الإبداعية.فالآخر هو السائح في العتبات الممنوعة وشمس الضباع وهو المستعمر في الخطاف لا يموت في القدس وهو الأمريكي في ديما براندو وهو الأب في صندوق عجب وهو الابن الذي يقتل آمه في زهرة حلب.

ويعود هذا الهاجس وهذا القلق في العلاقة مع الآخر إلى سنوات الطفولة الأولى لابن القيروان.فرضا الباهي ينتمي إلى عائلة محافظة وكان أبوه زيتونيا وإمام جامع.إلا انه زاول دراسته في مدرسة الراهبات في القيروان والتي شكلت نافذته على الآخر وعلى ثقافته والمبادئ الأساسية للتفكير والتي تتناقض مع مبادئ الثقافة التقليدية.وسيكون هذا الانفصام بين المدرسة والعائلة وبين الحي وأصدقاء مدرسة الراهبات خيطا وهاجسا سيؤرق رضا الباهي وسيدعوه إلى اكتشاف الآخر والانفتاح على عالمه ومحيطه والخروج من موقف الرفض لاستنباط مواقع أخرى تسعى لبناء أحلام مشتركة في التحرر والانعتاق.

وستكون السينما هذه النافذة لفتح هذا الحوار مع الآخر وبناء علاقة هادئة معه قوامها احترام الاختلاف والتعدد مع القناعة بوجود مصير مشترك.وسيعمل رضا الباهي في محطاته الإبداعية على نبش هذه العلاقة ونقد جوانب التسلط والهيمنة فيها وإحياء الفرح المشترك والأحلام والآمال التي تجمع الأنا بالآخر.وقد ساهمت هذه الأفلام والإبداعات إلى جانب أخرى في بناء علاقتنا بالآخر في مخيالنا الجمعي وإنشاء على خلاف عديد البلدان الأخرى علاقة هادئة بالرغم من الهزات التي تعرفها في بعض المراحل التاريخية العصيبة.

إلا أن هذا الموقف السياسي في أعمال رضا الباهي لم يطغ على الجانب الإبداعي وكانت كتابته السينمائية سلسة وحميمية وترحل بنا إلى عالم الحلم والأمل في شاعرية كبيرة.وهذا التوازن بين السياسة والإبداع شكل احد خصائص تجربة رضا الباهي على مدى خمسة عقود.
وستكون نقطة الانطلاق في هذه التجربة مع شريط «العتبات الممنوعة» سنة 1972 ومعه ستبدأ كذلك رحلة المصاعب مع الأجهزة الثقافية للأنظمة القائمة والتي ستنتقل من مواقع بناء الثقافة الوطنية في دولة الاستقلال إلى مواقع قمع أنفاس الحرية مع هبوب رياح الاستبداد.و بالرغم من المنع فان هذا الفيلم سيتحصل على عديد الجوائز. وسيكون هذا الفيلم إحدى بدايات السينما التونسية الجديدة المتنوعة حتى في ذاتيتها على الثقافة الرسمية وبدايات الاستبداد.

ثم سيأتي الشريط الحدث في مسيرة رضا الباهي وهو شريط «شمس الضباع» والذي سيشكل أحد أهم الأفلام في السينما الوطنية.وستبدأ مصاعب رضا الباهي مع هذا الفيلم منذ التصوير فبعد رفض السلط التونسية التصوير في بلادنا ستعمل جاهدة على منع تصويره الفيلم في المغرب بدون نجاح.كما ستشترط حذف مشهدين لبرمجة الفلم في مهرجان قرطاج والمسابقة الرسمية لسنة 1978.ثم ستقترح على لجنة التحكيم ورئيسة تلك الدورة الممثلة الكبيرة فاتن حمامة اعتباره خارج المسابقة حتى يخرج بخفتي حنين من المهرجان وأهمية هذا الفيلم تكمن في قدرته على تصوير مرحلة تاريخية هامة في تاريخ الدولة الوطنية وهي مرحلة الانفتاح الاقتصادي ودخول الشركات الأجنبية والتحولات الاجتماعية الكبرى التي ستدخلها هذه التحولات في بلداننا – وقد نجح هذا الفيلم في ضبط وتصوير هذه التحولات الكبرى مبرزا أثارها السلبية في تفكيك المجتمعات الجديدة.ولئن تناول مسألة دخول السياحة إلى إحدى قرى الصيادين فان الشريط تجاوزها ليطرح مسالة اكبر واهم وهي مال البرنامج والمشروع الوطني في ظل بدايات العولمة والانفتاح الاقتصادي .

ولعل أهمية الموضوع وحساسية الكتابة السينمائية ساهمتا في النجاح المنقطع النظير الذي عرفه هذا الشريط فإلى جانب برمجته في أسبوع المخرجين في مهرجان كان وحصوله على العديد من الجوائز في المهرجانات الدولية فقد بقي 22 أسبوعا في قاعات العرض في فرنسا ليجلب 150 ألف متفرج بينما لم يتجاوز عدد المشاهدين لفيلم الأرض ليوسف شاهين 20 ألف متفرج.

ثم ستتواصل هذه الرحلة الإبداعية مع فيلم الملائكة سنة 1983 ووشم على الذاكرة سنة 1985 والذي ساهم فيها الممثلان العالميتان Julie Christie وBen Gazzara ثم سيأتي فيلم «الخطاف لا يموت في القدس « سنة 1994 والذي أثار ضجة كبيرة واتهمه البعض بالهرولة للتطبيع.إلا أن رضا الباهي وجد في الشاعر محمود درويش مدافعا كبيرا عن الشريط.
ومع شريط «صندوق عجب» سنة 2002 سيفتح رضا الباهي مرحلة جديدة موغلة في الذاتية وسيعود في هذا الشريط إلى مرحلة الصبا ومدينة القيروان ليغوص في الذاكرة ويجد إجابات على مخاوف وقلق الخمسينات وستتواصل هذه المرحلة الذاتية مع فلم «ديمابراندو» الذي سيخرج للقاعات سنة 2011. إلا أن هذا الفيلم سيعاني من مشكلتين هامتين . الأولى وفاة مارلون براندو قبل التصوير مما اثر على السيناريو الأول ودفع المخرج إلى كتابة سيناريو جديد مما نتج عنه تأخير كبير في إنتاج الشريط- أما المشكل الثاني فهو تزامن خروجه الفيلم مع الثورات العربية مما احدث انزعاجا من الجمهور والنقاد الذين كانوا ينتظرن قراءة المخرج لهذه التحول الهام في تاريخنا المعاصر .
ثم سيأتي فيلم «زهرة حلب» سنة 2005 ليعود رضا الباهي إلى القضايا السياسية الحارقة ويخوض في موضوع الجهاد وظهور غول العنف الإرهابي والذي دمر إلى حد كبير مسارات التحرر والديمقراطية التي فتحتها الثورات العربية.

هذه بعض المحطات في مسيرة رضا الباهي الإبداعية – وقد ساهمت هذه التجربة الثرية لا فقط في بناء سينما الجنوب والسينما التونسية بل كذلك كان لها دور إلى جانب عديد المبدعين الآخرين والذين سأتعرض لبعضهم في نحت مشروع ثقافي وفني قوامه التعدد والمدنية والتنوع والذي ساهم في بناء الأنا وتفرد وخصوصية تجربتنا السياسية التاريخية .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115