• حدّثونا بالأمس القريب ، وهم يصوغون الدستور، بأنّنا «ناقصات» وعلينا حتى « نكتمل» أن نُردف إلى الرجل «الكامل» الذكر.. ولأنّنا كنّا متفائلات انتفضنا ولوينا الأعناق، فكان التراجع عن صفة النقص، واختاروا للدستور أن يظلّ على صمته في شأننا، فكان أبكم عاجزا عن إسعافنا بالحجج القانونية لنواصل تفاؤلنا.
• ولأنّنا متفائلات ظللنا على إصرارنا في فرض المساواة مع الرجل، ونبّهنا إلى أنّنا لا نقبل سوى بالمساواة التامّة التي لا تخضع لقيد أو شرط، ولأنّنا متيقظات أدركنا أنّ المساواة لا تتحقّق سوى بتحطيم المسلّمات التي فرضتها علينا الأعراف، وأملت علينا أنّها شرط أساسي للإيمان بالله، ومن خالفها فقد خالف إرادة الله «المقدّسة».. وحذار فاكتمال العقيدة في نظرهم مقترن بدرجة إهانتك للمرأة، وبمدى قدرتك على حجبها و « إسبال الكساء عليها»، فتظلّ كائنا غامضا مسلوب الصوت والنظر والسمع، كائنا بمثابة « الوعاء» على قول فقهائهم يسع منيّهم ويحذق حفظه وإنتاج النسل منه.
• طبعا توفّرت لهم من الأخبار المروية ماشاء لهم أن يتناقلوا، أخبار حجبت النصّ القرآنيّ عن العقول مثلما حجبت هذا الكائن المدحور لكنّه ضروري لبقاء النسل.. وظلّت المرأة منذ أن فتحت عينيها تؤمر بوجوب العيش في ظلّ الذكر، وأن لا تقتات إلاّ بعد أن يأكل الذكر، ولا تنام سوى بعد أن يعلو شخير الذكر وقد بات راضيا عنها، كيف لا ورضى الله من رضى « ظلّه في الأرض» الذكر.. مرويات ما انفكّت تنبّه إلى أنّ هذا الكائن مغضوب عليه منذ أن خلقه الله، وسيظلّ نقمة منزّلة على بني آدم إلى يوم الدين، وعلى بني آدم أن يتفنّنوا في إحكام قيده ففي حريته خراب في الدنيا وهلاك في الاخرة.. وستظلّ هذه اللعنة تلاحق هذا المخلوق حتى بعث البعث.. فلا مكان للمرضي عن النساء سوى في « آخر أطراف الجنة»، وعليهنّ بملازمة الخيام.. لا يلتقين بربهنّ في الجنة ولا يرى الله سوى المؤمنين من رجال بني آدم من الأمة المحمدية دون نسائها.. وإن جعلوا لها مكانا في الجنّة ، وإن كان قميئا، فلأنّ الذكر كان راضيا عنها. إذن فحساب المرأة يكون في الدنيا وعلى يدي ذكرها.. لأنّها الهدية التي قدّمها الله لابن آدم فصارت حكرا عليه.
• تلك هي القاعدة الفقهية التي تحكمت طيلة قرون في مكانة المرأة في المجتمعات الإسلامية. ولم نكن نحن خارج هذه المنظومة لأنّها منغرسة في الوجدان الجمعي، أسهمت النساء أنفسهنّ في تغذيتها ونقلها إلى بناتهنّ وأبنائهنّ.. وظلّت هذه الرؤية حيّة تشاركنا العيش وتتدخّل في مشاغلنا اليومية ، ويستحضرها المجتمع من سياسييه إلى أهل قانونه إلى مثقفيه وانتهاء إلى عامّته. فكانت المفارقة بين ما اندرجت فيه الدولة من نزعة إلى التجديد وإمضاءات على اتفاقيات دولية يطالب جميعها بوجوب الخروج بهذا الكائن من اعتباره إنسانا إلاّ ثلاثة أرباع إلى مساو يمتلك حقوقه كاملة مثله مثل الرجل...
• هي مفارقة عجيبة، ولعلّ أفضل من يعيشها المجتمع التونسي أكثر من غيره من المجتمعات العربية: فقد استفاقت المرأة التونسية في ذات يوم من أيام شهر أوت 1956 على مجلّة قانونية، هي بمثابة الصكّ الذي أخرجها من دائرة الحيوانية إلى الإنسانية، استأمنها عليها رجل آمن بإنسانيتها واعتبر أن لا نهضة لبلاده إذا قامت على ثنائية الأحرار والعبيد، وأن لا حياة لجيل رضع الذلّ واستبطن الدونية.. واعتُبِرنا في نظر الشرق زائغين عن المقدسات التي رسموها خطوطا حمراء واختزلوها في هذا الكائن العجيب.. وظللنا طيلة ما يزيد عن نصف قرن نعيش هذه المفارقة الغريبة: مفارقة جامعة بين قوانين وضعية تتجاذبها المبادئ الإنسانية العامّة وما اقتضته الشريعة الإسلامية من قيود تدكّ مكانة المرأة دكّا. وانعكست هذه المفارقة على حياتنا العامّة وفي علاقاتنا وعبّر عنها السياسيون في خطبهم... وبين هذا وذاك ضاعت جهود من آمن بإنسانية المرأة، واعتبرها كائنا يحمل في كيانه وفي فكره نفس ما يحمله الرجل.. وازدادت حدّة هذه المفارقات عندما عجز الرجل الذكر عن التكفّل بمقتضيات العصر الجديدة وما تشترطه من تغيير النظرة إلى مفهوم الزوج في قيامه على ثنائية الرجل/ المرأة، ثنائية اكتملت شروطها في العمل والإنتاج لكن ظلت منغرسة في ولاية الذكر على الأنثى ماليا وثقافيا.
• واليوم، عندما وقفت المرأة منبّهة إلى وجوب استرداد انسانيتها كاملة ردّها الحداثيّ مثلما ردّها الرجعيّ. فأدركت أنّها مطالبة بمواجهة المجتمع، سوى قلّة قليلة، مواجهة النساء والرجال، مواجهة رؤية مؤسساتية لها من العمر ما يناهز 15 قرنا.
• ومع ذلك ، فنحن متفائلات، لأنّنا تمكنّا في السنوات التالية للثورة من مواجهة العقليات مواجهة صريحة.. فكانت مقارعة الحجة بالحجة.. وكنّا كلّما واجهناهم خرجنا منتصرات ومنتصرين ، لحذقنا بآليات الحجة والبرهان ، آليات ما كان لهم أن يحذقوها لأنّهم تعوّدوا على النقل والتسليم، بينما دعونا إلى التشكيك باعتباره مفتاحا إلى التفكير والفهم.
• متفائلات في الصيغة التي خرج عليها الدستور: فعلى الأقلّ وفّقنا في إقصاء « الشريعة» باعتباره مصطلحا قاتلا لمكانة المرأة، والدليل على ذلك ما تعانيه المرأة العربية التي كبّلت بدستور لا يحتكم سوى للشريعة، فظلّت كائنا ينتفض تحت أكوام من المسلّمات اختارتها لها الرجعية القاتلة.. وقد نجونا منها والحمد لله.. نحن متفائلات لأنّنا نساء كانت لهنّ الجرأة والقدرة في تكسير شوكة الإسلاميين في لحظة شمّروا فيها على سواعدهم لهدم بنية اجتماعية بدأت تتأسّس منذ الخمسينات ، وبناء مجتمع بديل يحاور فيه سرّا الشريعة..
واليوم نحن متفائلات لأنّنا لم نيأس عندما وضعوا اتفاقية السيداو في درج مجلس الشعب، واستجابوا إلى تنديد إمامهم بمجلس علمائهم القرضاوي في اعتبارها اتفاقية تزيغ بالمسلمة والمسلم عن الدين.. لأنّنا زغنا بهم في لحظة تاريخية فارقة دفعتهم إلى قبول قانون نشأ في رحم اتفاقية السيداو وهو «قانون القضاء على العنف ضدّ المرأة».
• علينا أن نتفاءل ، وقدرنا التفاؤل.. وعلى قدر تفاؤلنا نطالب بتفعيل القوانين التي تضمّنها هذا القانون.. نحن متفائلات لأنّه قانون جريء في تسمية الأمور بمسمياتها: صرنا بفضله نتحدّث عن التمييز والعنف والنوع باعتبارها مصطلحات قانونية.. مصطلحات تبنّت المعجم الاصطلاحي الحديث.. وعلى قدر تفاؤلنا ننكبّ على ألفاظه لاستخراج الدلالات التشريعية التي تفتح لنا أبوابا ملموسة تدفعنا إلى المساواة: مساواة تامّة بين المرأة والرجل تعترف لها بحقّها اقتصاديّا، وتسمح للمجتمع والمشرّع بأن يعيد النظر في أحكام المواريث ، أحكام هجينة قوامها الانتقائية في العبارات القرآنية و إعادة انتظامها انتظاما هجينا.. فأحكام المواريث هي تجسيم لعنف مسلّط على المرأة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.. ولنفتح مجال النقاش في المسألة.. ونحن على ثقة في أنّنا على حقّ وهم على باطل.. مساواة تقرّ للمرأة بإنسانيتها مثل الرجل وبحقّها في اختيار زوجها دون اشتراط اللون أو الجنس أو العقيدة..
• نحن متفائلات لأنّنا تحصلنا على قانون مصادق عليه يتجاوز في ثوريته اتفاقية السيداو صغناه من وجداننا وحاورنا به أوضاعنا، وبفضله سنخلع أبواب العبودية القاسرة التي ما تفتأ تذكّرنا بأنّنا حريم لسلاطين مازالوا يحلمون بعصور التيجان، فظلوا يهتفون بفحولة لا معنى لها اليوم. وسننجح لأنّ المرأة اليوم وببساطة واعية بأهمية هذه القوانين واكتسبتها بعد مواجهة حارقة لكنّها ناجعة مع الرجعية الإسلاموية.
• ومع ذلك فالمرأة اليوم واعية بأنّها انهت مرحلة وبدأت أخرى، لعلّها الأصعب، وتقتضي صبرا جميلا على.. النار: هي مرحلة مواجهة العقليات، والبحث عمّا يريح النفوس في تقبّل الجديد، والثقة فيه... وفي هذه المسألة نحن متفائلات.