هذا كان حالنا هذه السنوات الأخيرة مع التنظيمات الإرهابية بنسختيها القاعدية والداعشية ..فأحيانا توهمنا بعض الدراسات أو التحاليل بأننا أمام ظاهرة دائمة ومستمرة مابقيت أسبابها المتعددة (التهميش الاجتماعي ..غلبة التطرف على الساحة الدينية .. العلاقات الدولية الظالمة..) ولكن الإرهاب السلفي الجهادي المعولم وككل الظاهرات الاجتماعية محكوم بقانون «الكون والفساد» أي النشأة والنمو ثم الانهيار فالموت..
هذا التيار نشأ وترعرع في الحرب الأفغانية الروسية في ثمانينات القرن الماضي وعرف مراحل قوة وضعف خلال هذه العقود الأربعة الأخيرة ولكن ذروته كانت ولاشكّ مع الصعود القوي والمفاجئ لتنظيم داعش الإرهابي ولاحتلاله لمساحات شاسعة بالعراق وسوريا وإعلانه خلافته الدموية منذ ثلاث سنوات بعد أن سقطت في يديه ثاني مدن العراق وهي الموصل. هذا التيار بصدد التراجع منذ سنة على الأقل وبالإمكان أن نقول بأن فترة انهياره قد بدأت فعلا وأن انهياره لا يعود فقط إلى هزائمه العسكرية والأمنية في مواقع قوته الأساسية بل وكذلك لعوامل معقدة تتظافر فيها عناصر الرفض المطلق لهذه التنظيمات من قبل الغالبية الساحقة من العرب والمسلمين وكذلك لتآكل داخلي نتيجة انهيار الحلم /الكابوس الداعشي ونتيجة اكتواء العديد من أتباعه بوحشية قياداتهم قبل قسوة أعدائهم..
لا نريد أن نقلل من أهمية الهزائم العسكرية المتتالية للتنظيمات الإرهابية بل هي عنصر أساسي في ديناميكية الانهيار كما كانت الانتصارات الخاطفة لداعش خاصة في العراق وسوريا وليبيا مراحل أساسية في الصعود المعنوي لهذه الجماعات الإرهابية ..
ولكن حين نتكلم عن الهزائم العسكرية لا يجب أن نقف فقط عند ما يحصل في العراق وسوريا وليبيا بل وأيضا في بلاد كثيرة أخرى نذكر منها بالخصوص تونس حيث مني التنظيم الإرهابي داعش بهزيمة نكراء في مارس 2016 ببن قردان كما تمت تصفية قيادات ميدانية عديدة لتنظيم القاعدة بالجبال الغربية لبلادنا..
فالعمليات الإرهابية ذات المشهدية المرتفعة التي تحصل هنا أو هناك في أوروبا أو الشرق الأوسط أو تركيا لا ينبغي أن تحجب عنا ترهل القدرات القتالية لهذه المجموعات الإرهابية ..ترهل يعود كذلك إلى تغير السياسات الإقليمية تجاهه منذ أشهر عديدة .. فالجماعات الإرهابية لم تعد تستفيد من «تغاضي» السلط التركية على مرور المدد البشري لسوريا وكذلك تضييق الخناق على تمويلاتها والتي مازال يأتي بعضها من أثرياء في دول الخليج العربي..
محاصرة داعش في العراق وفي سوريا وبدرجة اقل في ليبيا له انعكاسات نفسية وتنظيمية بالغة الأهمية..
على عكس تنظيم القاعدة داعش تريد «الخلافة» الآن وهنا ..وفي الأدبيات السلفية الجهادية المعولمة للخلافة شروط تفوق بكثير شروط «الإمارة» فالإمارة هي عبارة عن «دويلة» اي منظومة حكم تسيطر على رقعة جغرافية لها قابلية الحياة، ولمنظومة الحكم هذه القدرة على الدفاع عن حدودها وكذلك فرض «الشريعة» على الأهالي الموجودين داخل هذه الحدود وعلى قيادة الحرب والسلم وعقد المعاهدات مع الدول الأخرى..ويكفي أن يكون «الأمير» من أهل الدراية بالعلم الشرعي وبفنون الحرب والقتال وان يكون مسلما براّ،ذكرا،عاقلا،حرّا ويتمتع بكامل مداركه العقلية والجسدية كما يفصل ذلك في كتاب السياسة الشرعية القديمة..
ولكن الخلافة هي غير الإمارة والشروط الواجبة فيها تتجاوز شروط الإمارة الموضوعية وكذلك الشكلية (أي في شخص الخليفة ذاته) ..فالخلافة لا تقوم إلا متى كانت هنالك قدرة على قيام دولة «إمبراطورية» يكون مجالها الطبيعي العالم الإسلامي كلّه في انتظار أن تتمدد إلى العالم بأسره..ومن شروط «الخليفة» بالإضافة إلى ما ذكرناه وهو النسب القرشي المثبت ..
فـ«الخلافة» الداعشية لا معنى لها إلا متى كانت على هذه الشروط..والواضح اليوم أن التراجع الحاد لهذا التنظيم الإرهابي في العراق والشام وانحساره اليوم في بعض أحياء الموصل عراقيا ومدينة الرقة سوريا يجعل من «الخلافة» مجرد أكذوبة لا غير..أكذوبة لها عواقب وخيمة داخل التنظيم ذاته : أي الشك والتشكيك في حسن تدبير القيادة التي ارتأت أن شروط الخلافة قد قامت في جوان 2014 وإذا بهذه الشروط تنهار كلّها بعد سنتين فقط «فالخليفة» إمّا أن يكون كاذبا أو اخرق أوسفيها وفي كل الحالات لم تعد حركته الانشقاقية على تنظيم القاعدة الإرهابي مفهومة ولا مبررة مادام سيعود إلى ما يشبه وضع القاعدة بعد أشهر قليلة من الآن : أي مجموعات تعيش في السرية وتتحين الفرص لكي تقوم بين الفينة والأخرى بأعمال إرهابية ذات مشهدية مرتفعة ولكن دون آية دلالة سياسية للتمكين الآن وهنا ..
بعض التحقيقات الإعلامية الجدية تفيدنا أيضا بان الحياة داخل الأراضي التي تسيطر عليها هذه الجماعات الإرهابية إنّما هي الجحيم ذاته لا فقط للأهالي بل وكذلك لما يسمى بـ«المجاهدين» فالذي يتجرأ على
نقد القادة مآله التعزير والتعذيب والإعدام (انظر كتاب الهادي يحمد كنت في الرقة ، هارب من الدولة الإسلامية – دار نقوش عربية – تونس 2017)
كل هذه المعطيات مجتمعة تبيّن بوضوح بأننا بصدد الانتقال من التراجع إلى الانهيار ولكن هذا لا يعني أننا قد استرحنا نهائيا من الإرهاب ..فالعمليات الإرهابية مازالت تهدد بلدانا عديدة في العالم وقد يكون ذلك سنوات عديدة ما دامت هنالك مجموعات إرهابية حتى وان ضعف عددها وعدّتها ..
ولكن ما يميّز بداية الانهيار هو التباين الحاد بين وضع التنظيم والايديولوجيا الدموية القائم عليها والتي تبشر بـ«خلافة» الان وهنا ..ويتبع ذلك تفكك وحدته المركزية وضعف جاذبيته والتي كانت في الماضي القريب عنصر قوته الأساسية هذه الجاذبية التي كانت لديه خاصة في أوساط الشباب المهمش الطامح لحلم جذري يثاربه لنفسه من نفسه ومن محيطه ومن الدنيا كلّها..
ولكن هنالك مخاطر أمنية وبشرية للانهيار الداعشي على المستوى الأمني وهي ظهور مجموعات صغيرة العدد أكثر راديكالية ودموية من داعش .. مجموعات لا تعذر الجاهل بجهله أي مجموعات تستبيح دماء وأعراض سائر المسلمين السنة أو «العوام» في القاموس الإرهابي السلفي الجهادي المعولم ..
هذه الشظايا الإرهابية قد تستهدف غدا مدرسة أو مستشفى أو محلا تجاريا بحجة أن هؤلاء المستهدفين من عامة الناس قد ساندوا «الطاغوت» ولم يهبوا «للجهاد» إذن أصبح حكمهم كحكم «الطواغيت» تماما..
هذا المنعرج الجديد للإرهاب الجهادي قد نبهت له دراسات كثيرة وجلّها يتوقع حصوله المدوي مع الانهيار الكلي والنهائي لمركز التنظيم في الرقة والموصل ..فكما كانت داعش انشقاقا اكثر دموية من القاعدة سيكون هؤلاء الذين لا يعذرون الناس بجهلهم قمة الوحشية والدموية ..
هذه هي المخاطر الأساسية البشرية والأمنية للانهيار الداعشي ولكن من الناحية النظرية الجافة سيسرّع بروز جماعات كهذه في النهاية الكلية والشاملة للإرهاب السلفي الجهادي بكل أصنافه ومدارسه ..
ولكن هذه النهاية لن تأتي هدية من السماء إنها أيضا نتيجة عمل جبار ينبغي أن يقام من اجل الحد الأقصى من جاذبية هذه الجماعات الإرهابية في مرحلة أولى مع مواصلة المقاومة الأمنية والعسكرية الناجحة التي تشهدها بلادنا والتخطيط لمعالجة قضائية وسجنية ملائمة وربح معركة الأفكار ضد التشدد والتزمت..
انهيار الإرهاب السلفي الجهادي المعولم آت لا محالة ولكن الاستعداد الجيّد الأمني والقضائي والسجني والاجتماعي والديني والثقافي والفكري هو الذي سيحدّ من كلفته البشرية والمادية ويسرّع في مدة سقوطه بالكامل كذلك ..