مع عودة مناقشة مشروع قانون المصالحة من قبل لجنة التشريع العام، يعود الجدل من جديد بين كتل المعارضة والائتلاف الحاكم، وذلك بعد توقف دام قرابة السنة تقريبا أي منذ 28 جويلية 2016 وكان توقف اللجنة في حدود جلسات الاستماع، إلى مختلف الأطراف المتداخلة في موضوع المصالحة. ويأتي استئناف مناقشة مشروع القانون من جديد، بعد التمهيد له في أكثر من مناسبة من قبل رئاسة الجمهورية سواء بعد سلسلة من المشاورات مع مختلف الأحزاب الممثلة في البرلمان وبالخصوص الممثلة في حكومة الوحدة الوطنية، ثم من خلال الدعوة إلى إحالة نسخة جديدة معدلة من قبل رئاسة الجمهورية تحمل مقترحات أكثر توافقية من النسخة الأولى.
لكن في الأخير عادت لجنة التشريع العام إلى النسخة الأولى المحالة عليها منذ 16 جويلية 2015، بعد تأكيدات رئاسة الجمهورية بتقديم جدول يضم مقترحات التعديل التوافقية، في غضون أسبوعين باعتبار أن الأسبوع القادم سيخصص للجهات لتتوقف بذلك كافة أنشطة البرلمان. أعمال لجنة التشريع العام يوم أمس انحصرت بالأساس في الاستماع إلى كل أعضاء ديوان رئيس الجمهورية على غرار رئيس الديوان سليم العزابي والممثل الشخصي لرئيس الجمهورية لزهر القروي الشابي والمستشارين نور الدين بن تيشة وسعيدة قراش ورضا شلغوم.
بداية متعثرة
ومع انطلاقة جلسة الاستماع، انطلقت الخلافات في أبسط الأمور من قبل نواب المعارضة بهدف تعطيل الجلسة وتوجيهها عن مسار موضوعها الأصلي مثلما حصل سابقا في النقاش الأول حول مشروع القانون، لكن هذه المرة فإنها مجبرة على وضع خطة بديلة، في ظل إصرار رئاسة الجمهورية على تمريره والتوافق بين الكتل على المصادقة عليه في أقرب الآجال.
الخلاف الأول كان بسبب كثرة النواب المتواجدين في اللجنة من غير أعضائها حيث بلغ عدد النواب الحاضرين 64 نائبا مع العلم أن أعضاء اللجنة يبلغ عددهم 22 عضوا، إلى جانب تغيير بعض أعضاء اللجنة بنواب آخرين، فعلى سبيل المثال حضر رئيس كتلة نداء تونس سفيان طوبال بديلا للنائب عماد أولاد جِبْرِيل، إلى جانب تعويض النائبة ليلى الشتاوي بالنائب حاتم الفرجاني. والغريب في الأمر أن تغيير عضوية الشتاوي تم دون موافقتها وعلمها، وهو ما أعلنته صراحة صلب الجلسة، ليغتنم رئيس كتلة الجبهة الشعبية أحمد الصديق الفرصة متسائلا حول أسباب تغيير أعضاء اللجنة حسب مشروع القانون.
أما الخلاف الثاني حول نقل أشغال اللجنة مباشرة على الموقع الالكتروني من عدمها بعد مطالبة رئيس اللجنة الطيب المدني بالتصويت ضد النقل المباشر، إلى جانب مطالبته بتحديد تدخلات النواب بوقت زمني حدد بـ 3 دقائق أو 5 لكل مداخلة. هذا الأمر رفضه نواب المعارضة الذين اعتبروا أنه لا يمكن التراجع عن مبدأ علنية أشغال اللجان، إضافة إلى غياب أية فصل في النظام الداخلي يحدد تدخلات النواب في اللجان البرلمانية.
أهداف مشروع القانون
مشروع القانون والذي يضم مجالين اثنين من مصالحة اقتصادية ومالية مقسمة على ثلاثة أهداف، تتمثل بالأساس في العفو المتعلق بالموظفين الذين لم يرتكبوا جرائم ولم يعتدوا على المال العام، إضافة إلى مصالحة تخص كل مواطن تونسي انتفع بصفة مباشرة أو غير مباشرة بصفة غير قانونية من النظام السابق، مع التنصيص على عدم استعمال كلمة «رجال أعمال»، ثم عفو يخص جرائم الصرف. هذه الأهداف الثلاثة لم ترض نواب المعارضة الذين لا يزالون متمسكين بموقفهم، حتى أن البعض منها لم يتطرق أصلا إلى مضمون مشروع القانون بل حاول انتقاد آليات مناقشة مشروع القانون. وفي هذا الإطار قالت النائبة عن التيار الديمقراطي سامية عبو أن رئيس اللجنة تقابل مع رئيس الجمهورية بصفته الرئيس من أجل التحضير لمناقشة مشروع القانون، وبالتالي فهو غير مخول لتسيير الجلسة، متسائلة في ذلك عن أسباب إحالة مشروع القانون للجنة التشريع العام وتتم إحالة مقترح القانون المعدل لقانون العدالة الانتقالية للجنة الحقوق والحريات مع العلم بأن النظام الداخلي يخص لجنة الحقوق والحريات بصلاحية النظر في مشاريع القوانين المتعلقة بالعدالة الانتقالية.
غياب التعديلات والمطالبة بإعادة النقاش العام
في المقابل، اعتبر مدير الديوان الرئاسي سليم العزابي أنه تم عقد جلسات الاستماع في الغرض سابقا، لذلك فإن هذه الجلسة يجب أن تخصص لمناقشة فصول مشروع القانون، مع مساندة رئيس كتلة حركة نداء تونس ذلك، إلا أن المعارضة ترى عكس ذلك باعتبار أن جهة المبادرة قد قامت بعدة تعديلات، حيث كان من الأجدر أن تعيد تقديم مشروع القانون حسب التعديلات الجديدة. غياب التعديلات المنتظر من قبل رئاسة الجمهورية، طرح عديد التساؤلات حتى من قبل نواب الائتلاف الحاكم، خصوصا وأن جلسة الاستماع مخصصة لهذا الغرض، وليس للضغط من أجل المرور إلى مناقشة الفصول التي قد تتغير حسب التعديلات. وفي هذا الإطار قال النائب عن حركة النهضة محمد بن سالم أن الجميع كان يعتقد أن جهة المبادرة تنوي تقديم التعديلات خلال هذه الجلسة، وبالتالي كان على الجهة المبادرة أن تقدم التعديلات لمناقشتها.
غياب التعديلات، جدد الخلاف من جديد صلب اللجنة لتدخل حركة النهضة على الخط بمطالبتها بتقديم التعديلات وإعادة منهجية العمل، لتتوقف على إثرها الجلسة من أجل التشاور بين رؤساء الكتل. حيث قال النائب عن حركة النهضة علي العريض أنه يجب فتح المجال لجهة المبادرة لتقديم التعديلات التي تراها وإعطاء النواب الوقت الكافي للنظر فيها. في حين طالب أغلب النواب بإعادة النقاش العام باعتبار أن مشروع القانون تمت مناقشته في الدورة البرلمانية السابقة، وقد تغيرت تركيبة اللجنة حسب النظام الداخلي مع بداية كل سنة برلمانية جديدة. ومع توقف اللجنة من أجل التشاور تم الاتفاق على مناقشة الفصل الأول فقط على أن يتم تقديم مقترحات التعديل المقدمة من الكتل للجهة المبادرة لكي تقوم باستيعابها وتقديمها إلى اللجنة في شكل جدول مقارنة بعد أسبوع الجهات.
تعديلات توافقية وهامة
وبالعودة إلى تدخل مدير الديوان الرئاسي سليم العزابي الذي حاول إقناع نواب الشعب بأهمية مشروع القانون، من خلال تأكيده على أن رئاسة الجمهورية مستعدة للتفاعل إيجابيا مع كل المقترحات المتعلقة بمشروع القانون من أجل الوصول إلى وثيقة نهائية توافقية وناجعة في نفس الوقت. كما أضاف أن جهة المبادرة تفاعلت إيجابيا مع كل مقترحات جلسات الاستماع السابقة في هذا الشأن، لذلك سعت إلى تحسين مشروع القانون في بعض النقاط الغامضة التي تستوجب مزيد التدقيق خصوصا في ما يتعلق بتطابق المشروع مع مسار العدالة الانتقالية وقانون العدالة الانتقالية لسنة 2013 وبتركيبة لجنة المصالحة. وقد جاءت هذه التعديلات بعد قيام جهة المبادرة بعديد الاتصالات مع خبراء في الاقتصاد وفي القانون وعدة أطراف مختلفة من حيث وجهات النظر والاطلاع على تقارير دولية والتجارب المقارنة والمتمثلة أساسا في الاعتذار والاعتراف وكشف الحقيقة والمحاسبة ثم المصالحة وحفظ الذاكرة، على غرار تقريري لجنة البندقية وخبير الأمم المتحدة في العدالة الانتقالية.
من أهم التعديلات التي ستطرأ على مشروع القانون الفصول المتعلقة بتركيبة لجنة المصالحة، حيث بين العزابي استعداد الرئاسة لدراسة تركيبة اللجنة التي يجب أن تتحلى بمعايير الشفافية والنزاهة والاستقلالية وكافة الضمانات التي تمكنها من القيام بواجبها، باعتبار أن التقديرات التي حددتها مراكز البحث والدراسات تثبت أن الأرقام تتراوح بين 8 و9 آلاف من بينهم الموظفين العموميين الذين في شأنهم تتبعات أو أحكام باتة وعددهم بين 3 و4 آلاف شخص ورجال الأعمال والمواطنين التونسيين في مختلف المجالات، لذلك وجب إعادة الثقة وتحرير الطاقات داخل الإدارة والعلاقة بين الدولة والمستثمرين».
مهلة إضافية..
عودة أشغال اللجنة بمناقشة الفصل 1 من مشروع القانون والذي ينص على أنه «يندرج هذا القانون في إطار تدعيم منظومة العدالة الانتقالية وتهيئة مناخ ملائم يشجع على الاستثمار وينهض بالاقتصاد الوطني ويعزز الثقة بمؤسسات الدولة ويهدف إلى إقرار تدابير خاصة بالانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام تفضي إلى غلق الملفات نهائيا وطي صفحة الماضي تحقيقا للمصالحة باعتبارها الغاية السامية للعدالة الانتقالية». النقاش العام بخصوص الفصل الأول لم يكن بعيدا عن الخلافات والتشنجات، بين المعارضة ونواب الائتلاف الحاكم الذين قدموا عديد التساؤلات حول كيفية مساهمة المصالحة في التشجيع على الاستثمار، خصوصا وأن الأشخاص المعنيين بالمصالحة هم ممن مارسوا الفساد على حد تعبيرهم.
توقف أشغال مجلس نواب الشعب مع بداية الأسبوع القادم، سيعطي نواب الائتلاف الحاكم فرصة من أجل تركيز إستراتيجية للتسريع في المصادقة على مشروع القانون بعد دراسة التعديلات المنتظر تقديمها، كما ستكون مهلة إضافية من أجل تجند المعارضة وتوحيد صفوفها للتصدي لهذا المشروع بعد استحالة تغيير موقفها بالرغم من الوعود والتطمينات المقدمة من قبل رئاسة الجمهورية.