المؤشرات عديدة. نقابات قطاعية (خاصة التعليم) تتمرد على قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل التي لم تعد قادرة على التحكم في إضرابات عشوائية. وقطاعات (النسيج والجلد) تنسحب (مؤقتا ربما) من اتحاد الصناعة والتجارة. أجهزة الدولة الحاملة للزي والسلاح تتصارع، شرطة ضد الديوانية. والسلطة الثالثة أي العدالة في صراع مزدوج مع السلطات التنفيذية والتشريعية وفيما بينها، مسلسل لم يفهم أحد لغزه ولا حلقاته. ولو رجعنا الى الوراء لرأينا كيف أن الفئوية قاومت بشراسة قانون المالية 2017 إلى درجة افراغه من محتواه. فلا الأطباء ولا المحامون ولا الصيادلة ولا المحاسبون ولا التجار ولا المقاهي ولا أحد يريد دفع الضرائب. ولو لم يقتطع الأداء من الأجراء مسبقا لما دفعوا مليما.
ان ما يذكره الملاحظون ينتسب الى حلقة ما بعد التسلط وبالتحديد الادارة الكارثية للمسار الديمقراطي. أما ما أعنيه فهو حلقة سابقة تمثلت في مهنية-فئوية هي وليدة النظام التسلطي الا أنها خرجت منه بأقل الأثمان. هي ما يسمى في العلوم السياسية ب»المهنية-الفئوية المتجددة». لذلك وجب التمييز بين الفئوية القطاعية زمن التسلطية و في ضل التعددية. أوضح:
في الحقيقة يرجع مفهوم المهنية القطاعية الى هيقل الذي ميز في «مبادئ فلسفة القانون بين العائلة والدولة وما بينهما أي المجتمع المدني والذي هو حسب هيقل مجال الجماعيات والمنظمات القطاعية. وثلاثتهما حلقات من حلقات الدولة ككل. ولقد وقع السطو على المفهوم وتحويله عن وجهته من طرف النظم التسلطية خاصة في أمريكا اللاتينية منذ بدايات القرن العشرين. وهو سبب تسميته بالمهنية القطاعية المستحدثة أو المتجددة. وبدون إطالة ثمة تعاقد غير مكتوب بين الحكم التسلطي (عسكري أو مدني) وبين المنظمات المهنية بكل أشكالها (أجراء ورجال أعمال...) يقضي بموجبه منح تلك المنظمات المهنية احتكار تمثيل القطاع بدون منازع مقابل التحكم في منظوريها وغربلة المطالب وعقلنة الاحتجاجات والولاء الخفي للحكم. لذلك يكون عدد المنظمات القومية والمهنية المعترف بها قانونيا أو المؤسسة من طرف الدولة محدود العدد، احتكارية غير تنافسية وهرمية، ينتسب اليها كرها وهي بيد قيادات متواطئة. وها هو تحديد فيليب شميتـر المنظر الأساسي للتحول الديمقراطي للمهنية القطاعية:
«Corporatism can be defined as a system of interest representation in which the constituent units are organized into a limited number of singular, compulsory, noncompetitive, hierarchically ordered, recognized or licensed (if not created) by the state and granted a deliberate representational monopoly within their respective categories in exchange for observing certain controls on their selection of leaders and articulation of demands and support» ( Philippe Schmitter, 1974).
وهذا بالضبط ما حصل في تونس منذ 1956 مع المنظمات القومية (التي لا تخضع حتى لقانون الجمعيات) في اطار ما يسميه قرامشي «الكتلة التاريخية» التي أسسها الحزب الدستوري مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية والتي تتجاوز المهن لتضم اتحاد منظمات الشباب والاتحاد النسائي. الى درجة أن الدولة تساند القيادات ضد كل تمرد او انشقاق أو محاولة تغيير القيادات الطيّعة. وفي حالة أزمة أو صدام تعمل الدولة على تغيير القيادة عوض تأسيس منظمة موازية (وهو منطقيا أسهل). هذه المهنية القطاعية المستحدثة أو المتجددة تنهار اليوم أمام أعيننا. بعد أن أكيل لها العديد من الضربات الموجعة الواحدة تلو الأخرى. والمشهد مفكك في كل القطاعات. ولكن هنالك قاعدة ذهبية برهن التاريخ على جدواها وهي أن التعددية في ظل الديمقراطية تنسحب على الكل. وان احتكار قطاع ما أو تمثيل فئة ما هو راسب من رواسب النظام التسلطي. ولكن يبقى السؤال الأول مطروحا ومشروعا: هل أن ما نشاهده اليوم من تفكك تمثيل القطاعات هو ظاهرة صحية (التعددية في الكل) أم هو علامة بان الدولة ككل أي كمجتمع يمشي رويدا رويدا نحو الانحلال؟