قهوة الأحد: العالـم الآتي في أعين المخابرات الأمريكية

كنت أشرت في عديد المقالات في جريدة المغرب وفي غيرها من الدوريات والدراسات أن الهيمنة الأمريكية على العالم ليست فقط عسكرية وسياسية واقتصادية – بل نجد هذه الهيمنة جزءا هاما من تفسيرها في العمل الكبير الذي تقوم بها مؤسسات الدراسة والبحث والتي ساهمت إلى حدّ كبير

في فهم التغييرات الكبيرة والتحولات التي عرفها العالم وساعدت بالتالي في ضبط السياسات لمواصلة ودعم نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية على العالم.

وقد خصصت الإدارة الأمريكية وكذلك كبرى المؤسسات الاقتصادية أموالا كبيرة واستثمارات ضخمة لبناء مؤسسات بحثية كبرى ومراكز دراسات لا مثيل لها في العالم وقد ساهمت هذه المؤسسات في بناء تقاليد بحثية على جميع المستويات وفي كل المجالات ساعدت على تطوير قدرة استشرافية مكنت الولايات المتحدة الأمريكية والمؤسسات الاقتصادية من فهم وقراءة التحولات والتغييرات المستقبلية والاستعداد للتعاطي معها من أجل مواصلة تأثيرها وهيمنتها على العالم.

وأريد في هذا المقال التعرض لأحد أهمّ التقارير الاستشرافية في العالم وهو التقرير الذي يعده National Intelligence Council أو المجلس الوطني للمخابرات وهذا المجلس هو عبارة عن فريق صغير من المحللين تم بعثه سنة 1977 كمؤسسة تابعة للرئاسة الأمريكية ويأتي موظفو هذا المجلس من أهمّ الجامعات الأمريكية وكذلك من بعض موظفيّ أهمّ أجهزة المخابرات. ومهمة هذا المجلس هي التنسيق بين مختلف أجهزة المخابرات الأمريكية والتي يبلغ عددها 17 جهازا من أشهرها CIA.

ومن أشهر أعمال هذا المجلس إعداد تقرير استشرافي عن الوضع العالمي كل أربع سنوات لفهم أهم التحولات الإستراتيجية التي تهم الوضع العالمي. وإعداد هذا التقرير إلى جانب عديد التقارير الأخرى يشير إلى أن عمل المخابرات في البلدان المتقدمة وبصفة خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية لا يقتصر على العمليات العسكرية بل يشمل كذلك عملا تحليليا دؤوبا ودراسات استشرافية لفهم متغيرات العالم وتحولاته.
ويحظى تقرير NIC باهتمام كبير على المستوى العالمي وتتناوله أهم مراكز البحث والدراسات في العالم بالقراءة والتحليل والنقد باعتباره يعبر عن رؤية وقراءة أهم أجهزة الاستخبارات في العالم.

وقد صدر التقرير الجديد منذ أيام تحت عنوان « Global trends Paradox of Progress » أو «التطورات العالمية»: تناقضات التقدم».

ويهتم هذا التقرير بتحليل وفهم أهم وابرز التحولات الكبرى على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية خلال العشرين سنة القادمة ويمكن الاطلاع على هذا التقرير على صفحة الواب لـ NIC كما صدرت كذلك الترجمة الفرنسية لهذا التقرير في فرنسا منذ أيام تحت عنوان « les vingt prochaines années – L’avenir vu par les services de renseignement américains » عن دار النشر Les arènes

وقد اعتمد هذا التقرير على منهجية تشاركية إذ دعت NICقرابة 2500 خبير من 36 بلدا للاطلاع على آرائهم وقراءاتهم للتطورات والتحولات الكبرى التي ستساهم في رسم الملامح الكبيرة للعالم القادم.

إذن ماهي ملامح العالم الآتي حسب المخابرات والاستعلامات الأمريكية ؟

الملاحظة الأولى التي يمكن الإشارة إليها هي أن هذا التقرير تغلب عليه النظرة التشاؤمية وغياب التفاؤل حول مستقبل العالم والتحديات التي سنواجهها في السنوات القادمة وتبرز هذه النظرة السوداوية للمستقبل منذ العنوان والتأكيد انه ولو أن للتقدم مزايا فانه يحمل في طياته الكثير من المخاطر والتحديات الكبرى والتي تجعل المستقبل غامضا وغير واضح المعالم.

وقد أشار هذا التقرير إلى أهم التحولات والتطورات التي ستميّز العالم القادم وأولى هذه التحولات هي المسالة الديمقراطية حيث يشير التقرير انه ولئن سيتواصل النمو الديمغرافي على المستوى العالمي فان نمو الشيخوخة والتقدم في السن سيطرح طلبا كبيرا على اليد العاملة الأجنبية في أوروبا وبلدان آسيا الشرقية التي ستضطر إلى فتح أبوابها لهذه العمالة المهاجرة خلافا لما تروج له أحزاب أقصى اليمين هذه الأيام .

التحول الثاني والهام الذي أشار إليه هذا التقرير يخص الاقتصاد ودخول العالم واهم الاقتصاديات العالمية فترة من النمو الهشّ والضعيف وهذا التحول ستكون له انعكاسات لا فقط سياسية بل اجتماعية ليكون احد أهم عناصر الاستقرار في – عالم الغد-
أما من الناحية السياسية فيشير التقرير إلى تواصل نمو الحركات الشوفينية خلال السنوات القادمة والتي ستشكل التحدي والخطر الكبير الذي ستعرفه الأنظمة الليبرالية في العالم والموروثة من الحرب العالمية الثانية . ويحذر التقرير من أن هذه الحركات السياسية ونمو اليمين الفاشي سيضع الديمقراطية ومبادئ التعدد وحقوق الإنسان موضع خطر.

يشير هذا التقرير إلى تحدّ وهو صعوبة الحوكمة لا فقط داخل الدول بل كذلك على مستوى النظام العالمي وهذه الصعوبة تأتي من بروز الدول الصاعدة ومطالبتها بحوكمة عالمية جدية تأخذ فيها دورها لكن في نفس الوقت بقيت الحوكمة العالمية رهينة المؤسسات البالية وريثة الحرب العالمية الثانية والتي لم تتمكن إلى الآن من القيام بالإصلاحات الضرورية للأخذ بعين الاعتبار الواقع العالمي الجديد.

ويعطي التقرير كذلك جزءا هاما للثورة التكنولوجية لا فقط الحالية بل كذلك للقادمة والتي ستساهم في بناء عالم جديد لا علاقة له بعالم اليوم .ويؤكد كذلك هذا التقرير على نمو الصراعات وكذلك التحدي الإرهابي والذي سيجعل من العنف والحروب إحدى أهم سمات العالم الآتي.

هكذا إذن يطغى الخوف والسوداوية وعدم الاطمئنان على قراءة المخابرات الأمريكية للمستقبل فالسنوات القادمة ستكون سنوات عدم استقرار سينتج نموا للصراعات والعنف والإرهاب – وهذا التخوف هو كذلك نتيجة عجز الديمقراطيات عن حماية العالم من نمو الحركات الشوفينية والفاشية والتي ستزيد من حدة التوتر وعدم الاستقرار الذي يقود كما يشير التقرير إلى مواجهة عالمية

وقد اهتم هذا التقرير بقراءة استشرافية لمستقبل أهم الجهات في العالم وقد خص المنطقة العربية بجزء من تحاليله حيث أكد على تواصل حالة العنف وعدم الاستقرار والصراعات.

ولعل أهم جزء في هذا التقرير هو بناء السيناريوهات الاستشرافية لمستقبل العالم من خلال العشرين سنة القادمة وتأخذ هذه السيناريوات أساسها من التحولات الكبرى التي حددها التقرير.وقد قام التقرير ببناء ثلاثة سينار يوات كبرى تعكس نفس النبرة السوداوية التي ميزت روح التقرير وفهمه العام. والسيناريو الأول هو ما اسماه التقرير عالم الجزر un monde d’archipels نتيجة تمادي المد الحمائي من الناحية الاقتصادية والرافض للانفلات وهذا ما سماه البعض عالم الحركات الشوفينية الجديدة وهذا العالم سيكون وراء نمو الصراعات الاقتصادية التي قد تتحول إلى مواجهات عسكرية وحروب – السيناريو الثاني – هو ما سماه التقرير عالم « مناطق النفوذ» وهو عودة إلى منطق وعالم القرن التاسع عشر حيث ستحاول القوى العظمى إعادة بناء مناطق نفوذ جزئية في العالم تصبح مناطق حيوية لبسط نفوذها وهيمنتها ويؤكد كذلك هذا التقرير أن هذا العالم مليء بالمخاطر وقد يقود العالم إلى مواجهات كما كان الشأن في بداية القرن العشرين مع الحربين العالميتين الأولى والثانية.

أمّا السيناريو الثالث فهو ما يسميه التقرير عالم الأقليات والذي تنتفي فيه القوميات وتتراجع فيه الدولة الوطنية لفسح المجال لصعود الأقليات العرقية والدينية والاثنية لتدعم حالة عدم الاستقرار والعنف .

يرسم تقرير المخابرات الأمريكية عالما مخيفا في السنوات القادمة من أبرز سماته نهاية الاستقرار وانفتاح على المجهول – ولعل احد أهم أسباب هذا التخوف من العالم الآتي هو نهاية الهيمنة الأمريكية والتي يؤكد أنها كانت احد أهم أسباب استقرار العالم الموروث من الحرب العالمية الثانية والتي كانت الولايات المتحدة حاملة لواء العالم الليبرالي أمام أخطار الانهيار والتحدي الذي مثله العالم الاشتراكي. ونحن وان نعطي لهذه الأخطار المحدقة بالمستقبل حق قدرها فإننا نعتقد أن بروز حوكمة ديمقراطية منفتحة على آمال وأحلام الشعوب المضطهدة قادر على بناء عقد عالمي جديد يمكننا من بناء رابط مشترك يحمينا من أخطار العنف والصراعات والإرهاب.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115