بعد الثورة، اهتزّت أركان الدولة وأصاب الحكم تشتّت لم تر البلاد مثله. كثر المتدخّلون وكانت المزايدات وانتفض الشارع. منذ ستّ سنين وتونس في اضطراب. هذا برلمان ممزّق، فيه انتهازيّة مقيتة. هذه أحزاب تناور، تريد نفوذا ووظائف. هذه منظّمة شغّيلة تسعى، تريد أن يكون لها قول مسموع وقرار نافذ. أمّا الحكم المركزي فظلّ في تشتّت، في وهن. تجاه شارع يشتعل وأحزاب تغنم، ومنظّمة تتغوّل، ترى الدولة في تبعثر، تطفئ ما استطاعت من حريق، تجري لإرضاء هذا والآخر. رغم ما أتت من تنازلات، لم ترض الدولة الأطراف بل زادت في شهيّتها وطالبوها بالمزيد من الامتيازات والمناصب...
تونس بلد متخلّف. وفي البلد المتخلّف، لمّا يضعف الحكم، يشتدّ الصخب ويضطرب الشارع وتأكل العباد فوضى. تفسد الحياة والأعمال. تنكمش الأيدي. يصيب الناس قنوط. تسوء الأحوال... تعجز الدولة المريضة على التدارك، على الصدّ، على حماية نفسها من النهش، من التهافت. في بلد متخلّف مثل تونس، لمّا يضعف الحكم، تكثر الاضطرابات. يضيق الأفق. يختلّ الأمن. تصبح البلاد غابا. يصبح الشارع هو المحدّد للسياسات. تصبح المنظّمة والأحزاب هي سيّدة الشارع. بيدها الأمر والنهي. منذ ستّ سنوات، لا حاكم يحكم في البلاد. لا رقيب على الناس. لا رادع للشارع. الأمن مختلّ. اللصوصيّة منتشرة. والحياة فاسدة...
تونس في حاجة الى حكم قويّ، نافذ، قادر على تحديد التوجّه وضبط الضوابط، على فرض القانون، على وضع حدّ لما يحصل من خروق. تونس في حاجة الى حكومة قادرة على انزال الأمن أرض الواقع بما لها، بين يديها، من عنف شرعيّ. الدولة القويّة لها حضور في الساحة. لها رؤية بيّنة ومشروع قائم ويد من حديد. الحكم القويّ هو حكم شرعي، منتخب. هو حازم يعتمد القوانين. له قدرة على التسيير وعلى تحديد الضوابط. يخشاه الناس ويهابونه لأنّه رادع وأحيانا متسلّط. مقرّ العزم. ساهر. لا يتردّد. لا يخاف لومة لائم. له حزم بيّن بما له من ثقة. في ظلّ الحكم القويّ، تلقى الكلّ في مكانه، في انتظام، يمشي مستقيما، محترما للناس وللقانون. ان أتى أحد قولا صخبا أو تجاوزا يحاسب. ان فعل أحد خيرا أو شرّا يجازى حسب ما أتى من خير ومن شرّ. مع الحكم القويّ، لا عفو عند المقدرة ولا غضّ للنظر ولا رحمة. لكلّ فعل جزاء. لكلّ شيء حساب...
الحكم القويّ ليس حكما ربّانيّا ولا هو شعبويّا، كذاك الذي عرفنا في ظلّ بورقيبة خاصّة وبن علي. لأنّ الحكم الربّانيّ يعتقد أهله أنّهم خلفاء الله في الأرض ولهم حقّ النظر في البلاد والعباد وعلى أكتافهم تقع المسؤوليّة. يرى أنّه الأصل والفرع، يتولّى الحكم الربّانيّ أمر الدنيا والدين ويعتقد أنّه المكلّف بالشؤون جميعا، الملبّي لما للناس من مبتغى وحاجة. بيده الخير والشرّ. لا شريك له في الملك أحد... كذلك، يفعل الحكم الشعبويّ. في الليل وفي النهار، تراه يسعى لترضيّة هذا والآخر، لإسعاد الناس، لتوفير الشغل والماء والأرزاق... في ظلّ الحكم الربّاني والحكم الشعبويّ، لا مكان للأفراد، لا رأي لهم ولا فعل ولا قدرة. الأفراد غبار. الحكّام هم خلفاء الله. يحملون الأعباء جميعا، الأعباء كلّها...
الحكم القويّ ليس شعبويّا ولا هو بمتسلّط. الحكم القويّ ليس حكما ربّانيّا ولا يدّعي أنّ فكره هو الأفضل وأنّ سعيه هو الأبقى. الدولة القويّة متواضعة، تدرك ما لها من دور وما للأفراد من أدوار. الدولة القويّة هي الحامية لحرّيات الفرد والأقليّات والجماعة. هي الحاميّة للمعتقد وحقّ العيش المختلف. هي دولة منيعة. لها حزم وعزم وقدرة. رادعة دون خشية أو تلكئ لكلّ تجاوز أو تهافت أو مسّ من الحقّ العامّ، من الأمن، من النظم. لا شأن للدولة القويّة بشؤون العباد. لا ترزق الناس ولا هي تشغّل. كلّ فرد مسؤول على نفسه. كل عبد يجتهد لتحقيق غاياته. مع الدولة القويّة، الفرد هو المحور، هو المرجع، هو الأصل...