ما بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة: «حرب كلامية» توتر العلاقة، ولا رابح في الصدام

أول الحرب كلام، وفيها ليس هناك جندي غير مصاب، واليوم في تونس بات جليا للعيان أن الصدام بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة قد بلغ مرحلة بالغة الخطورة، تجعل من كل كلمة يصدح بها اي من الطرفين او خطوة تتخذ بمثابة تصعيد في اتجاه «الحرب»،

لينخرط الآخر بدوره في خطوات تصعيدية، لا تحمل البلاد إلى أزمة يمكن حلها اليوم بالحوار المباشر طالما أن الأمر ممكن قبل أن تطلق شرارة الحرب وتصبح العودة مستحيلة.

تطور الأحداث في الأزمة بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل، بات يقاس بالثواني، فمن صراع بين نقابتي الأساتذة والمعلمين مع وزير التربية، إلى صراع معلن بين الحكومة والاتحاد، لن ينتهي دون أن يخسر الجميع.

الأزمة كشف وزير الوظيفة العمومية والحوكمة السابق عبيد البريكي، يوم الجمعة انها على وشك ان تصبح «حربا»، بتلويحه بالاستقالة وبعقد للقاءات مع الأمناء العامين السابقين للاتحاد وأمينه العام الحالي نور الدين الطبوبي، في ذات التوقيت الذي انعقد فيه اجتماع لمجلس وزاري.

خطوات البريكي، الأمين العام المساعد سابقا في الاتحاد، وتصريحاته تكشف صراحة ان الأزمة ما بين الحكومة والاتحاد بلغت مرحلة الحرب الكلامية، التي اختار هو ان لا يكون طرفا فيها ضد منظمته وأبدى نيته الاستقالة. ليكون رد رئاسة الحكومة إجراء تحوير وزاري جزئي بموجبه عوضت البريكي بخليل الغرياني.

تحوير وزاري أعلن عنه عشية أمس، بعد ساعات من خروج البريكي للإعلام وحديثه عن ضغوطات ورغبة في الاستقالة، سبقتها إقالة من رئيس الحكومة الذي جاء قراره ليعمق من الخلاف مع الاتحاد، الذي اختار بدوره نهج التصعيد وإعلان «الصدام الكلي» مع الحكومة.

توجه للصدام عبر عنه الاتحاد بأكثر من طريقة، أولها دعوته لعقد اجتماع للمكتب التنفيذي اليوم، والى تجمع نقابي في بطحاء محمد علي بالعاصمة، بالإضافة الى الخطاب الحاد الصادر عن ناطقه الرسمي سامي الطاهري الذي طالب النقابيين برص الصفوف.

دعوة للتجمع ترافقت مع خطاب تجييشي يقوم على إبراز الحكومة كمن أعلن «الحرب» على النقابيين، وأنها بقراراتها تريد زعزعة الاستقرار الاجتماعي وتدفع بالاتحاد إلى خيارات راديكالية للدفاع عن منظوريه. لترتفع حدة التوتر للذي يبدو انه لن ينتهى قريبا دون تدخل عنصر ثالث لتهدئة الوضع بين الطرفين.

تهدئة لمنع الانزلاق الذي انطلق وبات يضع وثيقة قرطاج التي أفرزت الحكومة محل تساؤل، في ظل تصاعد الأزمة بين الحكومة والاتحاد، التي انطلقت بطلب نقابتين إقالة وزير وبلغت اليوم مرحلة اعتبار شق من قيادة الاتحاد للتحوير الوزاري بمثابة إعلان الحرب، خاصة بتعيين خليل الغرياني، القادم من منظمة الأعراف في وزارة الوظيفة العمومية مكان عبيد البريكي.

التأويل الباحث عن تهيئة الظروف للصدام بين الطرفين، يقوم على تصنيف الغرياني كعدو للاتحاد، والحال ان الرجل وطوال السنوات الفارطة كان الماسك لملف المفاوضات مع النقابيين في القطاع الخاص، وتربطه علاقات جيدة مع النقابيين جعلته يتجنب في الكثير من الأحيان الصدام مع الاتحاد. لكن معرفة النقابيين للرجل لن تحول دون ان يستغل جزء من النقابيين عملية تسميته في المنصب، الذي رشح له في فترة المشاورات الأولى، وتسويق الأمر على انه تصعيد خطير.

هذا السياق العام الذي ينبئ بان الأيام القادمة ستكون مصيرية في علاقة الاتحاد بالحكومة، فإما خيار التهدئة وتجاوز الأزمة وهو الطريق الأسلم او التصعيد من قبل الطرفين ليبلغا سويا مشارف الحرب دون ان يقدم اي منهما على إعلانها رسميا وتحمل عواقب ما سينجم عن ذلك. فكلى الطرفين يدرك حدوده ويعلمان ان الخيارات محدودة وتتحكم بها عدة اعتبارات واكراهات. أي أن خيار التصعيد لن يكون في المطلق بل في اطار حدود يعلمانها.

فالحكومة لن تكون قادرة، حتى وان كان من بين أعضائها من يرغب، بالذهاب الى حرب مع الاتحاد لما في ذلك من تداعيات سياسية، أولها انسحاب الاتحاد والأحزاب المقربة منه والتي تجمعها به علاقات جيدة من وثيقة قرطاج، وما قد ينجم عن ذلك من استقالات متتالية، ستجعل من مبرر بقاء حكومة الشاهد معدوما.

حتى وان نجحت الحكومة في تفادي هذا الانعكاس الخطير للحرب مع الاتحاد فإنها ستواجه ازمة سياسية عامة في البلاد وهي التي بطبعها تعاني من العشرات من الأزمات، عطلت تطبيق جملة من الإصلاحات الهيكلية.

التداعيات السياسية لأي خطوة غير محسوبة مع الاتحاد تجعل من حكومة الشاهد احرص على تجنب تحمل مسؤولية تطور الأزمة الى مراحل خطيرة، دون ان يعني ذلك أنها ستقبل بالتراجع عن خياراتها وعن تحويرها الوزاري ورفض إقالة ناجي جلول.

مقابل الحدود المرسومة للحكومة هناك محدودية للخيارات بيد الاتحاد العام التونسي للشغل حتى وان رغب في ان يظهر عكس ذلك، فالمكتب التنفيذي الجديد الذي اختار ان يخوض معركة صغيرة تنتهي بتحقيق نجاح يقدم له دعما معنويا في بقية مدته ويجعله في موقع قوة في المفاوضات مع الحكومة، وجد نفسه اليوم على أعتاب أزمة كبرى.

أزمة لم يكن ينتظرها ليستعد لها، وهو ما بينته ردود الفعل الأولية، مما يجعله أمام خيارات محدودة في التصعيد، فحتى سلاح الإضرابات ليس مطلقا بل هو محكوم بالعديد من العناصر من ابرزها مسألة الاقتطاع من الأجر لكل يوم إضراب غير شرعي، وهذا سيكون بمثابة حاجز نفسي ومادي يحول دون الإفراط في استعمال ورقة الإضرابات.

اذ ان الاتحاد بكل هياكله يدرك هذه المعضلة وبين ذلك عبر إستراتيجيته في قطاع التربية، التي اختار الأساتذة والمعلمون ان ينفذوا إضرابات منفصلة، الأساتذة في فيفري والمعلمون في مارس، لتقديم انطباع بان الوزارة تعيش على وقع إضرابات متواصلة مع تجنب إرهاق القطاعات ماديا.

سلاح الإضراب لا انعكاسات سلبية له فقط في صفوف الموظفين والنقابيين، بل انعكاسه الأسوأ في صورة الاتحاد لدى الرأي العام الذي سيحرم من خدمات وسيتعامل مع الإضرابات بسلبية خاصة ان أعلنت من قبل قطاعات اخرى غير التربية.

ما يحول اليوم دون الحرب هي حدود كل طرف فيها وإدراكه لحجم الخسائر التي سيتكبدها لكن هذا قد لا يدوم طويلا ان ظل التصعيد هو سيد الموقف، لذى فمن الأجدى للطرفين التهدئة وان يتصافحا على طاولة الحوار.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115