لكن للأسف لا يبدو أن جميع من في العالم قد تعلم ما تعلمه ماركيز من دروس الحياة. فلم يمر وقت طويل على الغاء آخر نظام للميز العنصري في جنوب افريقيا.
أما في تونس ورغم أننا كثيرا ما نتباهى بأن بلادنا كانت من أوائل البلدان التي ألغت الرق منذ مائة وسبعين عاما، فان ذلك لم يكن كافيا لإلغاء نظرة الاستعلاء لبعضنا الى بعضنا الآخر بسبب اللون خاصة.
وإذا كانت هذه الظاهرة لم تعد تجد لها موطنا في قوانيننا الحديثة، فإنها لم تزل من الممارسات اليومية لمواطنينا. واستمرت في النظرات والاشارات ورواسب اللغة، وان كانت وطأتها تختلف من جهة الى أخرى لأسباب تاريخية معلومة.
لذلك تعالت بعض الأصوات منادية بضرورة مقاومة الظاهرة. وتكونت جمعيات لهذا الغرض وأعدت بعض مكونات المجتمع المدني مبادرة تهدف الى اصدار قانون يجرٌم التمييز العنصري، تحولت الى مقترح قانون لا يزال قيد الدرس بمجلس نواب الشعب.
وجاءت حادثة الاعتداء على الطالبتين الكونغوليتين منذ أيام لتذكي حماسة الداعين الى الإسراع في اصدار هذا القانون. وإذا كانت المرحلة التي وصل اليها البحث في هذه الجريمة لا تسمح اليوم بالجزم بأنها جريمة عنصرية أو بنفي هذه الصبغة عنها، فانه لا تأثير لذلك على واقع أن الحادثة لا تمثل تصرفا معزولا...ا
فبلادنا تعاني فعلا من ظاهرة التمييز ضد أصحاب البشرة السوداء سواء من المواطنين أو من الأجانب. وهو ما يجعل التصدي لها واجبا إنسانيا مؤكدا، باستعمال القانون طبعا. لكن بواسطة التربية والتوعية والتحسيس أيضا.
لكن «شجرة» الاعتداءات العنصرية اللفظية والمادية لا يجب أن تحجب عنا «غابة» المشاكل الأخرى التي يعاني منها طلبة بلدان جنوبي الصحراء لدى اقامتهم في بلادنا.
وقد كان اللقاء الذي جمعنا في كتلة حركة مشروع تونس بأعضاء من «جمعية الطلبة والمتربصين الأفارقة بتونس» فرصة لاستعراض بعض تلك المشاكل واقتراح حلول لها.
فالإطار القانوني الذي ينظم اقامتهم ببلادنا يعود الى سنة 1970. وهو قانون لم يعد يتلاءم مع ظروف الحياة في تونس اليوم، فضلا عن أن تطبيقه ازاءهم لا يخلو أحيانا من بعض مظاهر التعسف.
ومن اهم الصعوبات القانونية التي تعترضهم هي انهم عند وصولهم الى المطار يحصلون على تأشيرة للإقامة لمدة سبعة أيام فقط. وهي المدة المخولة لهم لإعداد الوثائق اللازمة للحصول على بطاقة الإقامة ببلادنا. وتعد هذه المدة غير كافية بالمرة بالنظر الى الروتين السائد في إدارة الكليات والإدارة عموما. والى ان حصولهم على شهادة في الإقامة لا يكون الا بعد قضاء شهر على الأقل في المؤسسة التي يتابعون بها دراستهم. ويضاف الى ذلك أنهم يكونون معرضين بعد انقضاء مهلة الأيام السبعة لدفع خطية تأخير مقدارها عشرون دينار عن كل أسبوع تأخير.
وفي صورة حصولهم على بطاقة الإقامة فان مدة صلوحيتها لا تتجاوز العام الواحد. يكونون بعد انقضائه مجبرين على إعادة الكرٌة من جديد مقابل معاليم تامبر ترتفع من سنة الى أخرى.
ويذكر محدثونا من ناحية أخرى أن تراكم الخطايا تجبر حوالي أربعة ألاف منهم على البقاء في تونس بصورة غير شرعية ورغما عنهم بالنظر الى ان الإدارة التونسية ترفض السماح لهم بالمغادرة قبل دفع ما تخلد بذمتهم من الخطايا.
ويشتكي أعضاء الجمعية كذلك من بعض المعاملات السيئة الأخرى على غرار ترحيل البعض من الطلبة بدون مبرر أو تعرضهم للتحيل من قبل بعض المؤسسات التعليمية الخاصة التي تستدرجهم للقدوم والتسجيل باختصاصات معينة ليقع اعلامهم بعد ذلك بأنها لا تستطيع استيعابهم في الاختصاصات المطلوبة وتفرض عليهم التسجيل باختصاصات لا يرغبون فيها.
ومما يعاني منه الطلبة والمتربصون الأفارقة كذلك هو عدم تمتعهم بالتغطية الصحية ومجانية النقل. ويؤدي انعدام التغطية الصحية الى حرمان المتربصين من متابعة التربصات التي يحتاجونها لأن المؤسسات التي تجري بها هذه التربصات ترفض قبولهم بدون ان يكونوا متمتعين بالتغطية الصحية.
ويتبين مما تقدم ان معاناة الطلبة القادمين من بلدان جنوبي الصحراء لا تقتصر على الممارسات العنصرية التي يتعرضون لها من قبل فئة من مواطنينا، وانما تتجاوز ذلك الى التعقيدات الإدارية والممارسات اللاأخلاقية لبعض المتاجرين بالتعليم.
وإذا كان لزاما علينا اليوم ان نتعجل اصدار قانون يجرم الاعتداءات العنصرية أيا كان شكلها، فان العمل على تغيير الإجراءات المتعلقة بالتأشيرة والإقامة وإيجاد صيغة لتمتيع الطلبة الوافدين بالتغطية الصحية وتشديد المراقبة على المؤسسات التعليمية التي لا تحترم القانون والتفكير في بعث خلية للاستماع الى مشاغل هؤلاء الطلبة تمثل هي كذلك مسائل متأكدة فضلا عما تكتسيه من أهمية بالغة ليس فقط على الصعيد الإنساني وانما كذلك على أكثر من صعيد أخر باعتبار ان الطلبة المذكورين سيكونون سفراءنا ببلدانهم عند عودتهم اليها.