حديث الأنا: لِـمَ كلّ هذه العداوة !

أحبّ الكتابة. من عادتي الكتابة. الى جانبي دوما ورقة. أخطّ فيها ما مرّ من خاطرة، من فكرة. في الحقيقة، أنا أكتب ترويحا على النفس وفي النفس أحيانا ضيق وشدّة. أنا أكتب في كلّ شيء. أقول ما أرى دون حساب أو اضمار مسبّق. المهمّ عندي أن أقول رأيي. أنا أكتب للأنا الفرد

ولا أنشد ودّا أو منفعة. أنا اليوم في عمر، في غنى عن كلّ كسب، في حلّ من كلّ طرف. أكتب لأقتل الوقت. لا أكثر ولا أقلّ...

منذ سنين، أكتب في جريدة المغرب ما أرى وأشكر جريدة المغرب عمّا ألقى فيها من ترحاب وسعة. أحيانا أكتب في الشبكة. كلّ يوم، أخطّ، أعلّق على ما كتبه الناس وصحبي من فكر. أكتب، أعلّق لأقتل الوقت. ألم يخلق الله الانسان ليكتب في الأرض؟
يوم الاربعاء 21 ديسمبر، مساء، كتبت في صفحتي بالشبكة الأسطر الخمسة التاليّة حول مقتل المرحوم محمّد الزواري: «قد يكون أكبر عالم أتاه التاريخ. قد يكون أكبر مهندس في الدنيا. قد يكون ما شاء... أما أن ينتمي إلى جماعة القسّام وإلى حماس فهذا يجعلني في ريبة. انا لا أثق في هذا الرجل ولن أرى فيه الشهيد وغير ذلك من الكلام الثقيل... تونس في فقر وجهل. هو مازال في أول الطريق وكان عليه أن ينكبّ يتعلم، يفتح عقله، يبتعد عن الحروب فليس بالحروب تتقدم الامم... لم أصبح التونسيون في كل البؤر، في كل الحروب... لماذا أصبحنا في الارهاب، في تجارة السلاح في التخريب المبين؟» هذا ما كتبت من أسطر. هذا رأيي في ما حصل من ضجّة، من جدل، من قول وردّ. هذا موقفي ولا أدّعي صوابا ولا حقيقة...

في الحقيقة، أنا لا أومن بالنضال ولا بهؤلاء الذين يصرخون صباحا مساءا أنّهم بعثوا في الأرض خدمة للوطن، فداء للقضيّة. في مقال نشرته في «المغرب» منذ أسابيع، كتبت أنّ على المناضلين أن لا يضحّوا بأنفسهم وأن لا أحدا كلّفهم بالدفاع عن الشعب. كلّ فرد مدعوّ الى تحمّل أمره، الى الدفاع على مصالحه. أنا أخاف المناضلين، «حماة الوطن والدين»، وقد انتشروا في الأرض يلهفون الأرض. أنا لا أثق في المناضلين المهنيين. هذا رأيي ولا أدّعي أنّ رأيي هو الأصوب...

كتبت خمسة أسطر في الفايسبوك فجاءت الردود سريعة، فيها حماسة مفرطة، فيها شتم وسبّ وتهديد، فيها أيضا شكر ومساندة. سهرت ليلتها أقرأ ردود الفعل وكانت غزيرة، من كلّ لون... الى حدّ كتابة هذه الاسطر، تتوالى الردود المختلفة. في ما أرى، عندي الآن نحو 250 تعليقا و230 «محبّا». لم أر مثل هذا من قبل...

جاءت الردود حول سطوري الخمسة غالبا متشنّجة، فيها كلام جارح، يؤذي. أكثر الردود المتشنّجة كتبها من لا يحسن كتابة العربية ولا الفرنسيّة فيقول في دارجة عسيرة الفهم. كانت الردود هذه من سقط الكلام بل بعضها يحمل عداوة وتهديدا جليّا. ما هو تهديد بالقتل كما قد يحصل مع بعض الناس في البلد بل هو تهديد بالتبوّل، بالعنف، بالفاحشة والمنكر. في ما وصلني من ردود، وجدت تشنّجا بليغا، هناك سوقيّة. هذا يسبّك ويسبّ أمّك وأبوك وكل طيفك. هذا يؤكّد أنّك صهيوني، من بني اسرائيل، كافر، ملحد، لا دين لك ولا ملّة. هذا يؤكّد أنّك

خائن بيّوع، لا تصلح للعيش... الكثير من هؤلاء الرافضين، هم في ما أرى شباب هزّتهم حماسة وتعصّب ولمّا تخونهم الحجج يسبّوك ووالديك ومن كان من الناس حيّا. في كلامهم عنف وشرّ...

أمّا في الصنف الآخر من التعاليق وكانت قليلة فغالبا ما ألقى ترحابا ومساندة. كتب هؤلاء ما يرونه من رأي وفي رأيهم اتزان وحجّة. أحيانا، يشاطرونك الرأي وان خالفوك ففي كتاباتهم اعتدال وتبرير. بعض الردود القليلة أخذت حميّتي وهاجمت بنفس الغلظة من قال قولا رذيلا. فرحت بدفاعهم عنّي وحمدت الله وقلت «مازال الخير في الدنيا». جاء هذا الصنف من التعاليق، جلّها، بالعربيّة أو بالفرنسيّة المرضيّة...

في الحقيقة، رغم هذا الفيض من التعاليق، لم يتغيّر نظري في المرحوم وان كان لي أن اكتب في الرجل من جديد لأعدت ما قلت. كان على الزواري أن يتمم دراسته وأن لا يزجّ بنفسه في حرب لا تنفع... لم يعجب القرّاء رأيي وكانت ردودهم غاضبة، ساخطة. رغم التعاليق الغاضبة وما صاحبها من سبّ وشتم فهذه لم تغيّر لي رأيا. لم يتغيّر النظر فيّ والكلّ يعلم أنّ تغيير النظر يلزمه شرح وسماع وصبر. لم يتغيّر رأيي ورأيت في مطر التعاليق جهالة وعنفا. زادت قناعتي بما كتبت ولكن شعرت ببعض الأسى ودبّ فيّ بعض احباط ونكد... أنا لا أفهم لمَ كلّ هذا الغضب، لِمَ كلّ هذه العداوة الكبرى. لا أفهم لمَ يسبّني الناس وما كتبت هو فكري ومعتقدي. هل حرّيّة الرأي تعني أن تقول ما شئت من القول؟ هل الصراخ والتشنّج هو الدليل على صفاء النيّة ونضاليّة مثلى؟

أختلف مع الكثير من المعلّقين ولا أعتقد أن في سبيل القضيّة الفلسطينيّة كلّ شيء يجوز. لا أتّفق هنا مع الكثير من أهلي. في نظري، القضيّة الفلسطينيّة هي قضيّة الفلسطينيين أولا وثانيا وثالثا وتحرير الأرض هي أولا وأخيرا من مهامّ الفلسطينيين... كذلك، أرى أنّ التطبيع واللاتطبيع، الدخول في الحرب أو اقامة السلم، المواجهة أو المهادنة... هي من صلاحيات الفلسطينيين وعليهم أن يقرّروا ما شاؤوا من القرار. رغم تعاطفي ومساندتي، القضيّة الفلسطينيّة ليست قضيّتي. كيف لها أن تكون قضيّتنا الأهم وفي تونس فقر وبطالة وتعليم فاسد...؟ في رأيي، يجب أن ينظّف كلّ أمام بيته وأن يسعى كلّ من موقعه ويبذل الجهد حتّى نرفع الوهن والتخلّف... لا أرى كيف مساعدة الفلسطينيين ونحن التونسيون في ارهاب مدمّر، في جهالة ضاربة، في فقر مزمن. كيف معاضدتهم ونحن نمدّ أيدينا شرقا وغربا نستجدي، نرجو مساعدة وشغلا؟ أنا لي أولويّات أخرى... أولويّتي اليوم هي الرفع ممّا أنا فيه من وهن، هي السعي حتّى تكون تونس أفضل، فيها شغل وأمن وصحّة وتعليم... حين أرى كيف يسعى التونسيون جميعا الى الهجّ، الى الرحيل علّهم يلقون أفقا أرحب وقد اختنق البلد فهذا يمنعني من النظر الى غير قضيّتي وقضيّتي اليوم هي رفع الجهل...

ملاحظة أخيرة حول ما تلقّيت من ردود وحول ما أرى من جدل دائم في الشبكة وفي غيرها. أعتقد أن تونس منذ الثورة تحيا انشقاقا كبيرا. أرى التونسيين اليوم في قسمين مختلفين، متناحرين. تلقى هذين الطرفين وجها لوجه، في صراع، في صدّ، عند كلّ مسألة، في كلّ حدث. في ما أرى، يتّسع الشقاق مع الأيّام، أكثر فأكثر. في ما أرى، هناك تباين يتعمّق بين من مشى رأسه الى الشمال ومن مشى رأسه الى الجنوب، بين من تظاهر في باردو ومن تظاهر في صفاقس، بين من اعتمد العقل ومن اعتمد النقل، بين أنصار بورقيبة ومعارضيه، بين من غنّى للحياة ومن شدّه القبر... هذا التباين الحادّ تلقاه ماسكا، معطّلا، عند كلّ جدل، في كلّ لقاء، في كلّ ما يكتبه الناس المختلفة... أخاف التصدّع وما قد يحمله التصدّع من تشنّج، من رفض للآخر، من تعصّب. خمسة أسطر حول المرحوم وها هي الدنيا تقوم وتقعد وها هو السبّ لا ينتهي...

كتبت خمسة أسطر وكان الأولى على القرّاء أن ينتقدوا ما كتبت دون سبّ أو قباحة أو عنف. كان الأولى أن نحكّم العقل، أن يأتي كلّ بما كان له من قول دافع، مضيء... ما قرأته من ردود متوتّرة، من قول يقطر سمّا هو ذاته المغذّي لما نرى اليوم فينا من ارهاب، من سحل، من سعي للتمكين، للتسلّط. ما قرأت من تعاليق هو ترجمة لما نحيا من عداوة، من بغضاء، من تشتّت. ثمّ يدّعون أنّنا خير أمّة أخرجت للناس، انّنا أهل حضارة عريقة، أنّنا أفضل شعوب الأرض والكلّ لنا ناكر، حاسد...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115