واليوم ، ومنذ ما يقارب الأسبوع نواجه موجة جديدة، هي في الحقيقة غاية يطمح إليها الإسلام السياسي ببلدنا، وعبّر عنها زعيم الحركة منذ ما يقارب السنة: إنّها دعوة الناس إلى الحديث عن مفهوم التوبة، وقبول عودة التوابين، وذلك انطلاقا من « الرؤية الإسلامية السمحة الداعية إلى الترحيب بكلّ توّاب».. لا أخفيكم أنّ الكثيرين استطابوا إلى الفكرة لأنّها نابعة من مقاربة فقهية قديمة تستند إلى الآية 2/222 « إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين» ، ولكن غفلوا عن مسألة هامّة جدّا ركّز عليها النصّ القرآني: فالتوبة محمودة لكن التواب ليس الإنسان، وليس وليّ الأمر وإنّما هو الله وحده. لماذا أسقطوا الآية 104من سورة التوبة ؟ أم إنّهم يجهلونها؟ فلا بأس إذن من ذكرها حتى يهتدي المهتدون « أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ « . فالتواب صفة من صفات الله الحسنى.. لكن مالعمل؟ وهؤلاء انتصبوا بيننا منذ خمس سنوات يوزّعون صكوك التوبة والغفران، وأقاموا أنفسهم أولياء علينا بعد أن أقاموا أنفسهم أولياء على الله، وأعوذ بالله، يتكلّمون باسمه ويحكمون بلسانه.. هؤلاء اكتسبوا قدرة على إفراغ المصطلحات من معانيها ليشحنوها بما شاؤوا من معاني تخدم أجندات سياسية لا غير.. وعدلوا بالأسماء عن مسمّياتها.. ويكفي أن أقف عند مصطلح واحد صار الكثيرون يتلذّذون بتكراره وتبنّي ما أملي عليهم من معان دخيلة عنه.. وإن قلت الكثيرين فإنّما أعني بوجه خاصّ الإعلاميين الذين سرعان ما شمّروا على ساعد التلقين وتعويد الناس عليه عسى أن يسهموا في ترويضنا لكي نبلع هذا السمّ ولا نردّ الفعل..
طبعا لا أفجئكم عندما أقول إنّه مصطلح الجهاد، مصطلح يعود الفضل فيه إلى زعيم العلماء الإسلاميين عندما أخرجه من قبر الذاكرة وأحياه بموسوعة « الجهاد» ،وصارت بمثابة دستورهم، منها ينهلون الأفكار والاجتهادات.
اليوم تراجع الإعلاميون بسهولة غريبة.. عن مصطلح الإرهاب لاستبداله بالجهاد.. فهل دخلوا بيت الطاعة التي طالما صفّق الناس لجرأتهم في رفضها؟ اليوم صرت أرى هؤلاء « مجاهدين» مستميتين في سبيل نشر الفكر الإخواني، لكن الأخطر أنّه فكر يخطّط لبنية اجتماعية جديدة: بنية تعترف بولاية أولي الأمر، بنية تخضع لإرساء المجتمع حسب شكل هرمي، الزعيم في الرأس ثمّ نخبتهم وفي الأخير العوام وقد ألجمت أفواههم..
اليوم أدركت الجواب عن سؤال كثيرا ما استأثر بي: لماذا يحرص القرضاوي جاهدا على نشر أجزاء من «موسوعته في الجهاد» عبر موقع الإخوان؟ ولماذا يحرص أتباعه على تلخيص هذه الموسوعة؟ فهل لأنّ حكم الجهاد مازال سائرا؟ وهل إنّ المسلم اليوم قادر على إلزام الكافر والكتابي بأحكام الجهاد؟ لأنّ الفقهاء القدامى قرنوا الجهاد بحالة قوّة بلاد الإسلام. اليوم فقط أدركت أنّ الجهاد سيكون داخل بلاد الإسلام، إنّه أشبه بالدعوة والتبشير.. وها قد أرسِلوا إلى العراق وبلاد الشام حتى يشتدّ عودهم، وإن قدروا على إرساء دولة الإسلام فيا حبّذا وإلاّ فالأفضل أن يكون وليّ الأمر واقعيّا ، ولتكن عودة كلّ مجاهد إلى أرضه عسى أن يقوى عوده ويفرض سياسة الدعوة في أرضه.. وفي يوم قريب ستلتقي لا محالة الأراضي الموعودة وقد حسن « إسلامها» بحسب منظار الشيوخ..
فقبول « الإرهابيين/ المجاهدين» مسألة حتمية لإنقاذ المشروع الإسلاموي.. وتدريب الإعلاميين لنشر هذه الفكرة مسألة أساسية لربح المعركة.. ولذلك لا تتعجبون عندما تسمعونهم يلطّفون من لهجتهم ويطفئون جذوة تحاملهم على من ذهب يقتل الناس ويغتصب النساء والأطفال ويعيد نظام الرقّ.. ولا عجب أن تراهم متعاطفين مع هذه المقاربة الجديدة، بل ستجد الكثير ممّن يحمل على الحداثة مناديا بوجوب التعامل معهم تعامل الرأفة وأن نتغاضى عمّا اقترفت من جرائم..
هذا ما ينتظرنا يا سيداتي وساداتي في القادم من الأيام.. علينا أن نستسلم بما أنّ رئيسنا اعترف بالعجز عن استيعابهم، وعلينا أن نرضخ بما أنّ شيخهم يحمل من العطف ما يروي به أراضي الدنيا جميعا.. لكن لديّ سؤال ألقيه وأعلم أنه لن يجيبني أحد منهم: إن اشتاق هؤلاء الحنين إلى الدم والسوط فهل ستخرّون للأذقان باكين على شباب هدر دمه؟ وهل أنتم مستعدّون لأن نحمّلكم منذ الآن مسؤولية ما قد يحدث من بلاء؟
لعلّ في الاحتياطات التي أعدّها « خبراؤهم « ما ينبئ بالمصائب التي تحدق بأبنائنا من الأمنيين والجنود، فالجماعة تعدّ قانونا يكفل عائلات الشهداء من الأمنيين والجيش، أي بمعنى آخر استعدّ « خبراؤهم» للويلات التي تنتظرنا.
فلنسمّ الأسماء بمسمّياتها، وليرعو كلّ من تحفزه نفسه إلى تدعيم فكرة استقبال الإرهابيين، فأبناء تونس هم أبناؤنا جميعا.. ولأنّ من يدعّم هذه المقاربة مسهم في فتح أبواب جهنّم على شعب طيب بريء..