وأتباعها لم يعودوا «إخوانا» أو «الجماعة» وإنما الإسلاميين الديمقراطيين. لكن ما بين التسويق ووقائع الحركة فرق بينٌ يجعل كل محاولات «الشيخ» غير موفقة.
من روما، على بعد خطوات عن مقر الفاتيكان، بحث رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي على جعل مفهوم/مصطلح الإسلام الديمقراطي طيعا له مترسخا في أذهان من استمعوا الى كلمته خلال منتدى حوار المتوسط الذي انتهت أشغاله بالعاصمة الإيطالية روما.
الإســـــــلام الديمقراطـــــي و«الديمقراطيين الإسلاميين» مفهوم جديد وتوجه فكري وسياسي ليس لدى كل الحركات الإسلامية السياسية، وإنما هو صنيع حركة النهضة وتحديدا «شيخها» الغنوشي الذي يراد له ان يتجذر في المخيال وان ينتشر كمفهوم وفكرة خارج تونس.
فرئيس الحركة راشد الغنوشي، الذي يعتبر انه لا إمكانية لنشأة وانتشار «الإسلام الديمقراطي» دون إصلاح سياسي، والإصلاح السياسي داخلي فلينتصر السلام الديمقراطي يجب هزم «القراءات الهدّامة و الخاطئة للإسلام» وإنهاء التعامل بمفهوم «الإسلام السياسي»، فهو «مصطلح فضفاض ارتبط كثيرا بالجماعات التي تشرّع للعنف و تتحدّث باسم الإسلام».
مفهوم بحث الغنوشي على تسويقه على انه ضرورة التطور والمرحلة، فالدول الاسلامية بصفة عامة وتونس خاصة تواجه تحديا حقيقيا، من وجهة نظره، يكمن في «كيفيّة جعل الإسلام قوّة اعتدال و تسامح في مواجهة التطرّف و العنف»، و الإسلام الديمقراطي يمكن أن يكون بديلا في بلد تجاوز مرحلة الاستبداد التي يقوم فيها النظام على القمع». وهنا ينتقل «الشيخ» من النظري للتطبيقي بوضع تونس عوضا عن بلد، وحركة النهضة عوضا عن الإسلام الديمقراطي. مثلا أراده رئيس الحركة ان لا يمر دون ان ينجح في حفر هذه الصورة في الأذهان، النهضة أضحت حزبًا مهتمًا بتكريس الديمقراطية، أي انها انتقلت من خانة الإسلام السياسي الى خانة الإسلام الديمقراطي.
هذا المفهوم الجديد، لم يشرحه رئيس الحركة كثيرا، في كلمته لكنه فعل ذلك منذ سنة وبضعة اشهر، تاريخ اول اعتماد للمصطلح الذي اقتصر تفسيره بالنسبة لـ«الشيخ» على تبنى الحركة لفكرة الحزب المدني يميّز أصحابها بين ما هو مقدس في الإسلام وما يمكن تفسيره بحريّة. كالنص الإسلامي حول السياسة الذي يعتبره نصٌا مفتوحا للتأويل.
والحزب المدني هو الحزب الذي لا يقوم اصحابه بالعمل الدعوي، فحركة النهضة التي فصلت في مؤتمرها بين الدعوي والسياسي او كما يقول رئيسها فصلت «بين مؤسسة سياسية وأخرى دينية». وأوجه الفصل التوقف عن ممارسة السياسة في المساجد، التي كانت تختبئ فيها الحركة في فترة «الاضطهاد» وممارستها في حزب سياسي لا يضلّل اي شخص باستخدام الدين لأسباب سياسية. كما قال الغنوشي في حوار مع «ميدل إيست» بعيد المؤتمر العاشر للحركة.
في ذلك التصريح كما في الحوار مع «المغرب» او «لوموند» الفرنسية حرص الغنوشي على تقديم صورة جديدة للحركة، حركة تخلت عن الفهم الشمولي للسلام ولم تعد من المنتمين لتيار الإسلام السياسي بل وحتى اسمها يمكن ان يصبح في وقت لاحق «حزب المحافظين»، وهو حزب يكتفي بان تكون مرجعيته الإسلام.
مرجعية إسلامية مع ديمقراطية داخلية والفصل بين الدعوي والسياسي هما التوليفة المثالية لتتطور النهضة من «جماعة» إسلامية نشأت على فكر الإخوان المسلمين الى «حزب من المسلمين الديمقراطيين»، وهي التسمية التي قالها الغنوشي منذ 5 أشهر في حوار مع صحيفة ألمانية.
مفهوم الاســـلام الديمقراطي/ «الإسلاميين الديمقراطيين» يغيب عن كل أدبيات الحركة الرسمية التي لم تحين الى غاية اليوم، بعد مرور أكثر من خمسة اشهر على مؤتمرها العاشر الذي صادق على وثيقة فكرية ومنهجية جديدة لم ترى النور الى اليوم. لكنه يجد بعض ملامحه في كتابة «الشيخ» وحواراته الصحفية خاصة تلك يجريها مع وسائل إعلام غريبة، على غرار «فورين أفيرز»
فالإسلام الديمقراطي، او الديمقراطية الإسلامية، هي وعاء يستوعب كل الاختلافات السياسية والعقائدية، بل ويحترم الحقوق الفردية ويعزّز الفرص الاجتماعية والاقتصادية، لكن جنبا الى جنب مع حماية القيم والهويات العربية الإسلامية. مفهوم ان نجح فهو سيكون «توبيخا لطغاة العلمانيين والمتطرفين».
هذا المفهوم الجديد الذي لا احد يسوق له في الحركة غير راشد الغنوشي كما ان لا احد يمكنه ان يحدده صراحة وبعبارات أدق، حتّى صاحبه، اين يقف المفهوم وماهي الموانع والخطوط الحمراء امام الحريات، وهل تقبل الحركة بالمساواة في الارث وبالحريات الجنسية وغيرها من الحريات الشخصية؟
الاجوبة عن هذه مذكورة في ادبيات الحركة القديمة التي بدورها تتضمن إشارات للمفهوم الجديد المراد تسويقه، ففي كتابه «الحريات العامة في الدولة الإسلامية» يقول راشد الغنوشي «أن الديمقراطية ليست مفهوماً بسيطاً وإن الإسلام لا يتناقض معها ضرورة، بل إن بينهما تداخلا واشتراكاً عظيمين يصلحان أساساً متيناً لتبادل المنافع والتعايش كما ان التباين والاستدراك عليهما واردان».
وقد قال ايضا في مداخلته في ندوة «الدين والدولة في الوطن العربي» التي إنتظمت بتونس بين 15 و 17 اكتوبر 2012 ان المرجع الأساسي لفهم الرؤية الإسلامية للديمقراطية هي «قبول مبدأ المواطنة، وأن البلاد ليست ملكاً لزيد أو لعمر أو لهذا الحزب أو ذاك، ولكنها ملك لكل مواطنيها، وهم جميعاً، بغض النظر عن معتقداتهم أو أجناسهم إن كانوا ذكوراً أو إناثاً، أعطاهم الاِسلام الحق في أن يكونوا مواطنين يتمتعون بنفس الحقوق و بأن يعتقدوا بما شاءوا ضمن احترامهم لبعضهم البعض، وأن يتصرفوا وفق القانون الذي هم يسنونه عبر ممثليهم في البرلمان « مستنتجا «فالديمقراطية إذاً كونها عملية أخذ القرار ليست متوافقة مع الإسلام فحسب، بل الإسلام يحتاج إليها أيضاً».
وفي حواره مع صحيفة دى سايت الألمانية الأسبوعية 4 أفريل 2013 عاد راشد الغنوشي لتبيان التأصيل الإسلامي للديمقراطية مجددا و قال انه «توجد التعددية في الإسلام ولا يستطيع أحد أن يعلن عن نفسه متحدثاً باسم الإله أو القرآن فهو نص يمكن تفسيره بعدة وجوه».
لكن هذه العبارات التي تسوق للخارج والداخل دون تعميق فيها تخفي اكمة خلفها، فالديمقراطية والإسلام متكاملان في ظلّ المواطنة طالما أن المواطنة التي يحدد لها الغنوشي معيارين، لا تتقرر إلا بهما في الحياة السياسية الإسلامية، الأول الانتساب الديني، و الثاني الإقامة، وهذا يعنى ان الغنوشي يهدف إلى ترسيخ مرجعية عليا للمواطنة و هي الدين، مع الأخذ بالحقوق الإنسانية.
بعبارات اخرى، الاسلام الديمقراطي، هو الوجه المناقض للسلام الغاضب الذي يمثله التكفيريون والإرهابيون، ولكنه في النهاية يلتقي في ان الهدف هو ترسيخ الاسلام في دياره، فان كان الغاضب بالعنف فالديمقراطي بالتغيير المجتمعي. اذ ان الاسلام الديمقراطي، الذي حينما ظهر كعبارة كان الهدف نفي صفة الدكتاتورية ومحاولة تأصيل القبول بالانتخابات والتعددية السياسية لدى تيار الاسلام السياسي، قبل ان يقدم اليوم على انه تطور في حركة النهضة لا تزال حركة إسلامية تضع «ضوابط الدين» خطوطا حمراء لكن دون ان تعلن ذلك.