هل ستعصف الديمقراطية بروح الدعابة والنكتة في ربوعنا ؟

كنت ولا أزال أحبّذ صفة الدعابة والنكتة عند الأصدقاء المقربين. لأصدقائي العديد من الصفات ففيهم المثقف الذي لا يتوقف عن التفكير في قضايا العالم والمناضل السياسي الذي دافع عن قناعاته بكل صلابة حتى في أحلك فترات الاستبداد والذي يقضي كامل يومه في النقاشات السياسية والصراعات

وفيهم كذلك الفنان الذي يفني عمره من أجل بناء عالم جميل تنتفي فيه الصراعات في أعماله الفنية، وفيهم الرياضي الذي لا يهتم إلا بأخبار ناديه ويضرب عرض الحائط بكل الاهتمامات الأخرى، وفيهم المواطن العادي الذي يصارع متاعب الحياة وأرقها ويدفن بعضا من شجونه في المقاهي عند الصباح وبعد المساء وأيام الأحد كما يقول شاعرنا الصغيّر أولاد أحمد رحمة الله عليه.

إذن يأتي أصدقائي وبالأساس من مشارب مختلفة سياسية واجتماعية وثقافية إلا أن ما يجمع بينهم هو روح الدعابة ورفض التجهم وطرده نهائيا من مقاعدنا ولقاءاتنا. فتجدنا مع الجد والعمل نترك دائما مجالا للدعابة والهزل مهما اختلفت آراؤنا وتحاليلنا وقراءاتنا.
أردت الخوض في هذا الموضوع وأنا متأكد أن المقصّ أو الصنصرة لن تطول هذا المقال لأن السيد مدير جريدة «المغرب» الغرّاء الأستاذ زياد كريشان إلى جانب سعة علمه ودقة تحاليله يتميز بروح دعابة لا تقل عن معرفته ويعتبر لاعبا متميزا في هذا المجال قلت إذن أردت الخوض في هذا الموضوع بعد قراءتي لكتابين مهمين حول هذه المسألة في الأيام الأخيرة.

الكتاب الأول تحت عنوان Les Sautes d’Humour d’Albert Einstein أو «روح الدعابة عند اينشتاين» والذي صدر في باريس منذ أيام. أما الكتاب الثاني فقد صدر منذ أيام عن دار النشر «آفاق عربية» للصديق المنصف الشابي وهو بعنوان « Rire et politique en Algérie » «الضحك والسياسة في الجزائر» للأستاذ الجامعي في القانون والمحامي بشير الضحاك.

والكتاب الأول يحكي عن علاقة العالم الألماني المولد والأمريكي الجنسية ألبرت أينشتاين بالمزاح والدعابة. وأينشتاين يعتبر من أهم العلماء في القرن العشرين إن لم نقل أهمهم. فهو أب النظرية النسبية الخاصة والنظرية النسبية العامة واللتين شكلتا أساس الفيزياء الحديثة وكانت أعماله ودراساته واكتشافاته العلمية وراء إحرازه على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1921.

وإلى جانب اكتشافاته العلمية فالمعروف عن هذا العالم الكبير حبه للمزاح والدعابة وروحه المرحة. وتشير عديد الدراسات والمذكرات أن الهاجس الأساسي عند أينشتاين هو انتزاع الابتسامة والضحك لأصدقائه. وكانت نكتته ومزاحه لا يقتصر على الآخرين بل كان جانب كبير منها يخص شخصه.

وقد أكد في عديد المقالات على أهمية الفكاهة والمزاح. فأشار مثلا سنة 1948 «أنّ ما يعطي القيمة للحياة الشخصية هي قناعتنا أن عملنا وصراعنا اليومي هدفه هو بناء مجتمع عادل ولكن لو أن هذه القناعة لم يصاحبها المزاح والدعابة فإننا سنكون أشخاصا لا يطاقون ولا يمكن احتمالهم». وفي نفس المجال يقول أينشتاين في حديث له مع عالم الفيزياء البولوني جاكوب لوب سنة 1910 «يبدو لي أن الموهبة العلمية والصفات الإنسانية لا تلتقي في غالب الأحيان. وأنا أحبّذ شخصية مرحة على جهابذة البحث العلمي والتحاليل الرياضية».

ويمكن الإشارة إلى عديد المقالات والأحاديث التي تثبت استهزاء العالم الكبير ومزاحه من عديد الأشياء أولها من نفسه. فيقول مثلا في أحد أحاديثه «لا أفهم كيف لا احد يفهمني وكل الناس تحبني». وكان أينشتاين يقبل كذلك مزاح الآخرين منه. فقد أشار مثلا إلى الكلمة التي قالها له شارلي شابلن سنة 1931» إن الناس يصفّقون على أفلامي لأنهم يفهمونني وأنت يصفقون عليك لأنهم لا يفهمونك».

وكان أينشتاين كثير المزاح من زملائه العلماء ومن كثرة انشغالهم في البحث العلمي بدون وضع مسافة بين بحوثهم ونظرياتهم والحياة العلمية. فقال مثلا في رثائه لأحد أصدقائه العالم الفيزيائي السويسري ميشال بوسو «ما أعشق فيه كإنسان هو كونه عاش طويلا هانئا وفي اتفاق وانسجام مع امرأة وهو ما عجزت عنه مرتين مع امرأتين وبطريقة مثيرة للشفقة».

وكان معروفا عن أينشتاين مواقفه الساخرة من عديد المسائل والقضايا. فقد أشار مرة «منذ دخول علماء الرياضيات لعالم النسبية لم أعد أفهم منها شيئا وأنا مخترعها». ثم يمكن أن نشير إلى ما قاله عن الزواج في إحدى المرات» إن الزواج هو محاولة يائسة لتحويل لقاء عابر إلى شيء طويل المدى».ثم يمكن أن نشير إلى ما قاله يوما من «أنه من الصعب تحديد معنى الحقيقة لكنه من السهل التعرف على الكذب».

إذن هكذا كان أينشتاين أب الفيزياء الحديثة محبا للهو والمزاح والدعابة. وهذا التقديم يدفعنا إلى التقدم أكثر إلى منطقتنا العربية وإلى أهمية المزاح فيها والتي تعرض لها كتاب البشير الضحاك في إصداره الجديد «الكذب والسياسة في الجزائر». وهذا الكتاب هو عبارة عن دراسة حول تطور الطرافة وفن الدعابة والسخرية في البلدان العربية وإلى جانب الدراسة والتحليل العلمي وشّح الكاتب مؤلفه بالعديد من الطرائف تغطي فترة ما بعد الاستقلال وتهم كل الرؤساء الذين تعاقبوا على الجزائر من الرئيس المرحوم أحمد بن بلة إلى الرئيس عبد

العزيز بوتفليقة وبعض الشخصيات الرسمية الأخرى إلى جانب بعض المؤسسات الهامة في الجزائر كالجيش وخاصة المخابرات العسكرية. كما أضاف لها في نهاية الكتاب بعض الفصول الأخرى عن الطُرف في بعض البلدان العربية الأخرى كمصر وتونس والمغرب.

وقد دافع المؤلف في هذا الكتاب عن فكرة هامة وهي ارتباط الدعابة والطرفة في البلدان العربية بواقع الاستبداد وانحسار وتراجع الحريات وتزايد القمع. وفي هذا الوضع تكون النكتة والطرفة السياسية المجال الوحيد للتعبير عن رفض هذا الوضع من شعوب سُحبت منها حقوقها السياسية ومُنعت من حرية التعبير عن آرائها السياسية. فتكون الدعابة هي المجال لنقد النظام ورفض هذا الواقع وغياب الحريات. وكثيرا ما تتحوّل هذه الدعابة والنكتة إلى سخرية وازدراء كبيرين خاصة مع تطور المحسوبية والرشوة وتنامي القمع والاستبداد والصنصرة. فأصبحت الدعابة والنكتة هي القلب النابض للمجتمعات ومجال التعبير الحقيقي عن رفضها لهذه الأنظمة الاستبدادية والظالمة والفاسدة.
وأسوق في هذا المقال بعض الأمثلة لهذه الطُرف والتي نجد الكثير منها في هذا الكتاب. وأول ما نشير إليه هو بعض خطابات القايد أحمد والذي تحمّل مسؤولية حزب جبهة التحرير بعد إزاحة الرئيس أحمد بن بلة ووصول الرئيس هواري بومدين إلى سدّة الحكم. ففي

جانفي 1970 بينما كان الطلاب في جامعة الجزائر في إضراب ذهب القايد إلى الجامعة وأخذ الكلمة في اجتماع عام قائلا «إن بعض الناس ينسون أن بلادنا كانت على شفا حفرة منذ سنوات ولكن والحمد لله بفضل الثورة قمنا بقفزة إلى الأمام». وفي اجتماع آخر في فيفري 1971 قال القايد أحمد «إن الجزائر ستطبق هذا المخطط الخماسي بكل جدية حتى لو تتطلب منا عشر سنوات».

ومن جملة الطرف التي احتواها هذا الكتاب تلك التي تحكي كيف أن إحدى الدول الشقيقة في إفريقيا طلبت من الجزائر إرسال خبراء لدعمها وإعانتها على تنظيم انتخابات حرة وديمقراطية. وكان الأمر كذلك وتحول الخبراء الجزائريون إلى هذا البلد الإفريقي وعملوا بجد لإنجاح الانتخابات وكانت النتائج أن الرئيس بن جديد فاز بنسبة 99 %».

وقد عرفت النكتة السياسية في الجزائر تطورا هاما في أحلك فترات التاريخ المعاصر لأهالينا في الجزائر في فترة الحرب ضد الإرهاب وكانت هذه الدعابة متنفسا للخروج من شبح الحرب والقتل. وقد عرفت هذه الفترة تطور الحواجز الأمنية المزورة والتي تقوم بها عناصر إرهابية بأزياء الأمن الرسمي التي سرقوها. وكانت هذه الحواجز المزورة محل خوف كبير من المواطنين العاديين عندما يخرجون من المدن. وتحكي إحدى هذه الطرائف أن شابا خرج في سيارته مع بنتين جميلتين يتفسحون في سيارته في إحدى الأمسيات وطال بهم التجوال فأوقفهم أحد الحواجز الأمنية واكتشفوا بسرعة أنه حاجز مزيف أي نصبه الإرهابيون بأزياء رسمية. وبدأ قائد الكتيبة في شتمهم ونعتهم بأبغض النعوت لأنهم لا يحترمون قواعد الشريعة ولا يلبسون الزي الإسلامي متوعدا إياهم بأشنع أنواع العقاب. ثم طلب منهم بطاقات هوياتهم فقدمت الأولى بطاقتها وقرأها الإرهابي وقال لها «أنت محظوظة لأن اسمك خديجة وأنا لا يمكنني أن أصيب بمكروه امرأة تحمل اسم زوجة الرسول». وأعطته الثانية بطاقة هويتها فنظر إليها وقال لها «أنت كذلك محظوظة لأن اسمك فاطمة وأنا لا يمكنني أن أصيب بمكروه امرأة تحمل اسم ابنة الرسول الكريم». ثم طلب من الشاب بطاقته فقدمها له قائلا «أنا اسمي عبد الكريم لكن كنيتي وكل الناس ينادونني عائشة على اسم زوجة الرسول الكريم».

هذا جزء قليل من العديد من الطرائف التي يحتويها هذا الكتاب والتي كما أشرت لا تقتصر على الجزائر إلا أن الملاحظة التي أريد أن أسوقها تهم الفكرة الأساسية التي ساقها المؤلف والتي تقول أن الدعابة والطرفة السياسية مرتبطة شديد الارتباط بالاستبداد السياسي وغياب الحريات وخاصة حرية التعبير. وهنا أود الإشارة إلى أن سقوط الاستبداد وبداية التحول الديمقراطي لم ينتج عنه تراجع في النكت السياسية والطرائف. بل قل إن سلاطة اللسان قد زادت وأصبح التهكم والدعابة حاضرين بقوة في شبكات التواصل الاجتماعي وعلى صفحات الفايس بوك ومن أشهرها في تونس تدوينات الأصدقاء منير الفلاح الناشط الثقافي والمنصف ذويب المخرج السينمائي. وهذه الروح ليست مرتبطة بفترة تاريخية أو سياسية معينة بل هي جزء من روح شعوبنا تعبّر عن توقها إلى الحياة والحلم والدعابة والضحك.
وبالتالي مهما تغيّرت الأنظمة السياسية فإننا سنواصل المزاح والدعابة من أنفسنا ومن واقعنا فقد تمكننا هذه الابتسامات من تجاوز إخفاقاتنا ومواصلة حلم البحث عن عالم آخر ومدينة فاضلة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115