الحمد لله (1) النعجة والعنز ...

كلّ يوم، أنهض فجرا. كلّ يوم، أنا وزوجتي ننهض قبل آذان الفجر. لا أدري لماذا أنهض وزوجتي، كلّ يوم، فجرا. لا شيء يدفعنا الى النهوض فجرا. لماذا أنهض كلّ يوم فجرا وأنا لا شغل لي ولا أمر؟ أنا وزوجتي متقاعدان، نحيا بلا شغل. منذ سنين، ننهض باكرا، فجرا.

تعوّدنا النهوض فجرا. لعلّه التعوّد. لعلّه العمر...

في كلّ يوم فجرا، أنهض. أذهب الى المطبخ. في المطبخ، أبقى زمنا، ساعة أو ساعتين أو أكثر. فوق كرسيّ خشبيّ غير مريح، أشرب قهوة. الى جانبي، في الطرف المقابل، زوجتي، فوق كرسيّ خشبيّ، في صمت، تشرب قهوة. كلّ صباح فجرا، أنا وهي وحيدان في المطبخ. نقضي ساعة أو ساعتين أو أكثر. كلّ في زاويّة. كلّ لوحده. لا أحد يتحرّك. لا أحد يتكلّم. في صمت، أنظر في الجدران، في النافذة، في السقف، في الباب المغلق. في صمت، أستمع الى السكون المخيّم. أرقب الظلام المتلبّد. لا أفعل شيئا. لا أقول شيئا. لا أحد ينبس بكلمة. في صمت، كلّ يشرب قهوة. قطرة، قطرة. كلّ لوحده، سابح في خياله، هائم، لا يتكلّم، لا يتحرّك...

في المطبخ، يمشي بي الفكر في مسارب مختلفة. في المطبخ وطوال ساعة أو ساعتين أو أكثر، لا أفكّر في شيء. أحيانا، أفرك شعري. أحيانا، أمسح وجهي. تشدّ يدي اليمنى يدي اليسرى. أتنفّس ببطء. أنظر. لا شيء أنظر. أنتظر. لا شيء أنتظر. لا أفعل شيئا. أشرب قهوة. حولي سكون مطبق. أنا في سكون مطلق. أسمع دقّات قلبي وهذا مطر رذاذ ينزل أرضا...

كلّ يوم، أنهض فجرا. كلّ يوم، أنا وزوجتي ننهض قبل آذان الفجر. منذ سنين نسكن وحيدين ومعنا البنيّة. البنيّة في بيتها تنام. تغطّ. رحل محمّد وخديجة منذ زمن. هاجرا ابنيّا البلد. رحلت أمّي الى السماء العليا. بقيت وحدي. بقيت أنا وزوجتي. لا أكثر ولا أقلّ. أحيانا، أنظر اليها. أحيانا، تنظر اليّ. في المطبخ، فجرا، أنظر في نفسي فلا أرى شيئا. أنظر من حولي فلا أرى غير باب ونافذة وجدران أربعة. كلّ صباح فجرا، في صمت، أشرب قهوة. فوق كرسيّ غير مريح، أقضي الساعات في المطبخ. أحبّ صمت الفجر وقد نام الكون وخلت الشوارع من كلّ انس وحركة. أحبّ أن ألتقي بصدى نفسي ساعة أو ساعتين. هو صدى فراغ، عدم. هو صدى سكون. أغمض عينيّ. أنحني. أشدّ رأسي. أتنفّس قطرة، قطرة. أنا ظلّ. أنا خيال. أنا لا شيء...

كلّ يوم، أنهض باكرا، فجرا، أمشي الى المطبخ، أشرب قهوة. أمامي قلم وورقة. قبالتي، مغطّاة بلحاف، تجلس زوجتي، تشرب قهوة. تسألني زوجتي عمّا أكتب. تقف. تنظر دون تمعّن في ما كتبت على الورقة. تسألني: «من النعجة؟ هل أنا النعجة؟» قلت «نعم أنت النعجة وذاك ما كتب الجاحظ من قبل». نظرت فيّ. حدّقت وقالت وفي صوتها حزم «ان كنت أنا نعجة فأنت عنز». قلت «كيف عنز؟ لم يكتب الجاحظ هذا أبدا ولا أحد غيره من قبل ومن بعد». قالت «لا يهمّني ما كتب الجاحظ والأعراب والافرنج... حيث تكون النعجة يكون العنز وحيث تكون اللبوة يكون الأسد...» ماذا تقول هذه النعجة الجالسة قبالتي، هذه التي تشرب، في صمت، قهوة؟ أنا عنز؟ ما أنا بعنز. سمّى الجاحظ والأعراب المرأة نعجة. كذلك يسمّون النساء من قبل وكذلك كتب أجدادنا العرب. أنا لست بعنز و تبقى هي، في الكتب، نعجة...

ما لزوجتي في حنق والنعجة حيوان أهلي له فضل. تعطي لبنا نافعا وتلد خرفانا نذبحها في العيد ونأكلها لحما مشويّا. للنعجة خصلة كبرى. لولا النعجة لذبح اسماعيل (أو اسحاق) وانقلبت الأحداث وتغيّرت الدنيا. لولا النعجة لذهب الكثير أضحيّة. للنعاج لو علمت زوجتي فضائل متعدّدة. لو أدركت لرضيت وقبلت ولِمَ تغضب. أنا لا أفهم سبب غضبها. أنا لا أفهم لم سمّتني عنزا ولا أحد في الكتب سمّى الرجال عنزا. أنا لست عنزا. أنا أستاذ جامعيّ. درّست أجيالا عدّة ولي خصال وفضل وهذه مقالاتي وكتبي في كلّ صحيفة ومكتبة. أنا لا أفهم ما تقول النعجة ولم هي في غضب...

بعد تردّد، قلت لها وفي صوتي بعض من شدّة «أنا لست عنزا وعيب ما تقولين» فقالت «أنا لست نعجة وعيب ما كتبت.» زوجتي امرأة عنيدة، مشاكسة. ان غضبت تصبح افعى. دوما أتجنّب صدّها. دوما أخاف غضبها. في هذا الزمن المعكوس، يجب أن لا ألقي بنفسي في التهلكة. عليّ أن أتبيّن الفعل وأزن القول. يجب أن أساير الوضع. قبالتي، زوجتي في بعض غضب. ها هي تشرب قهوة وفي عينيها شرّ. أفسدت النعجة عليّ الفجر وما يحمله الفجر من نعمة. ها هي تشوّش فكري. ها هي تكدّر، تفسد صفاء اللحظة. ليتني لم أتكلّم. ليتني ما سمّيتها نعجة....

كل يوم فجرا، أنهض، أمشي الى المطبخ، أشرب قهوة وأقضي ساعة أو ساعتين أو أكثر، في هدوء، في نعيم، في اطمئنان مطلق. أفسدت النعجة الجلسة. شوّش العنز فكري. ليتني لازمت الصمت. ليتني لم أتكلّم. كلّ هذا سببه الجاحظ وما أتاه من سوء قول. ان الجاحظ لمنحوس، متعوس. ما له يصف امرأته بالنعجة؟ما له لم يقل: «أمّا أنا وزوجتي.» الجاحظ رجل رجعيّ وله نظر للمرأة دونيّ. أنا لست مثله ولا أحمل فكره. أنا أومن بالمساواة بين المرأة والرجل. لا فرق عندي بين الذكر والأنثى. في الارث سوف أعطي ما أملك لمحمّد حق خديجة، لا أكثر ولا أقلّ. ما كانت المرأة عندي دونية ولا هي أقلّ فكر وفضل. تعلم زوجتي كلّ هذا. تعلم زوجتي ما أحمل من نظر. سمّيتها نعجة اقتداء بالجاحظ... ما كان الجاحظ بمهين لنعجته. أظنّه يحبّ نعجته ويتقاسم وايّاها، على خلاف دوابّه، ماءا عذبا...

لا تفهم زوجتي ما للكلمات من مقصد. لا تتبيّن ما للمفردات من وضع. لم تدرس الأدب كما فعلت أنا طيلة سنوات عدّة. قلت انّها نعجة وما هي حقيقة بنعجة. هو فقط وصف. هي فقط توريّة. أنا أدرك ثراء العربيّة أنا قرأت كتاب الحيوان وغيره. أما هي فلم تدرس أبدا أدبا ولم تقرأ كتبا أدبيّة عربيّة. في ما مضى فكنت درست الأدب طولا وعرضا واطلعت على ما جاء فيه من ظاهر وخفيّ... الى اليوم، مازلت أتذكّر ما قاله الجاحظ وابن المقفّع من قبل والمعرّي وغيرهم من الأيمّة. الى اليوم، مازلت أحفظ الشعر. في الجامعة، في الثانوي، درست أمّهات الكتب ودقّقت النظر في الشعر...هذا عنترة خلف عبلة يبكي الشوق ويشمّ بعر الجمال علّه يتبيّن متى غادرت عبلة. هذا الحطيئة يتفنّن في الهجاء، يختار من الأوصاف أشدّها، يسبّ ما يحمل من وجه «قبّح الله حامله». هذا المتنبّي يقول في كافور مرّة مدحا جميلا ومرّة هجاء مقذعا. هذا ابن أبي ربيعة وهو من هو يغازل النساء، يزعجهنّ في بيت الله، أيّام الحجّ. هذا أبو العتاهيّة في تزهّد مطلق. يعرض عن الدنيا ويدعو الى الفناء، الى الموت توّا...

النعجة يا عزيزتي هو اسم أطلقه أجدادنا العرب. كذلك تكلّم أجدادنا العرب وهذه آدابنا وتلك حضارتنا التي نحمل. أنا نتاج ذاك الأدب. أنا غصن، ورقة، من تلك الشجرة. شجرة بهيّة. أصلها في الأرض وفرعها في السماء...

أنت نعجة؟ لا، أبدا. أنت لست نعجة. أنت انسان، كائن حيّ، له ذكاء وفطنة، له حسّ وخيال ودور مهمّ. أخطأ الجاحظ ومن جاء من قبل ومن بعد. أنا لست من هذا الخلق. أنت تعلمين يا عزيزتي ما أحمله من اجلال للمرأة. أنت تعلمين ما أكنّه لك من حبّ. حبّ العجوز لعجوزته. حبّ شبّ وكبر مع ما كان من سنين، مع ما كان من أنس وعشرة. أنت تعلمين ما يدور في رأسي وما أحمل في فؤادي. أنت تدركين ما يسكن فيّ من قيمة ورأي...

قبل غروب الليل، سوف تتبيّن زوجتي القصد. هي امرأة فطنة ولسوف تدرك وتنسى. قبل طلوع الشمس، سوف تعود اليّ وتنسى.زوجتي كثيرة النسيان وأنا أيضا. أصبحت وزوجتي ننسى كلّ شيء،كلّ يوم. مع العمر يجري، اختلّت الذاكرة. أنا اليوم أنسى كلّ أمر. أحيانا، أكتب في ورقة ما يجب أن أفعل فأنسى ما كتبت وأنسى الورقة. أحيانا، أحكي لزوجتي حكاية فتلقى زوجتي في حكايتي متعة وأنسا ونضحك سويّا طولا وعرضا. في الغد، أنسى وأعيد حكايتي فتلقاها زوجتي ممتعة، حلوة، فنعود نضحك سويّا وأشدّ، من كثرة الضحك، رأسي بيديّ...

في كلّ صباح، فجرا، أنهض. أمشي الى المطبخ. في المطبخ، وحيدا، ألقى نفسي. ألتحف ظلمة الليل. أسمع صدى الكون. أعانق الصمت. أسبح في السماء العليا. انّه التفرّد وفي التفرّد اطمئنان ونعمة. كم أودّ أن أبقى لوحدي. أن لا أتكلّم. أن لا أنظر في شيء. أن لا يطلع الفجر. أن لا يؤذّن المؤذّن. أن تستمرّ الظلمة ساعات وساعات أخرى. كم أودّ أن يتواصل هذا الفراغ البهيّ، أن يستمرّ هذا الصمت العليّ. في سكون مطلق، أدع خيالي في الأفق يسبح وهذا سكون ملهم وهذا ظلام مشرق. أترك خيالي يسري وهذا ليل قائم، يعبق. في الصباح فجرا، تعود الذات اليّ. يعاودني السكون. أنسى الدنيا والناس وما سكن في الجسد من وهن وعلّة. أنا طيف. أنا طير. يشدّني الحلم. يحملني الليل الى فوق.أنا خطاف من الجنّة. أسبح في السماء العليا. يدفعني الزمن، أرى أطواره المختلفة. كم أعشق العود الى نفسي. كم أحبّ هذا التفرّد، فجرا....

(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115