كذلك العديد من الوفود الأجنبية من المنظمات الدولية وكذلك ممثلي هيئات العدالة الانتقالية في بعض البلدان الأخرى.
وكالكثير من التونسيين كنت سعيدا بانطلاق حصص الاستماع لسببين على الأقل - الأول أن مسار العدالة الانتقالية طال وأصبت بالملل وحتى بشيء من الشك في - جديتنا في تناوله - تابعت مسارات العدالة الانتقالية في بلدين شقيقين وهما المغرب وافريقيا الجنوبية وطالعت في الكثير من الدراسات والمقالات الصحفية أن مسارات العدالة معقدة وليست بالسهلة وتتطلب الكثير من العمل والجهد لاتمامها بخطى ثابتة وبالرغم من هذه القراءات فقد أصبت بشيء من الملل لطول عملية الاعداد عندنا والتي قاربت الخمس سنوات كما انتابني الكثير من القلق على مصير هذا المسار وبالتالي كان انطلاق حصص الاستماع مطمئنا ومريحا.
السبب الثاني الذي كان وراء تخوفاتي يخص كل النقاش والجدل الذي صاحب هيئة الحقيقة والكرامة منذ انطلاقها وقد كان لهذا الجدل انعكاس كبير على عمل الهيئة وعلى التناغم الضروري بين أعضائها لأداء مهامها - فاستقال العديد من أعضائها وكثر الجدل حول رئيسة الهيئة وطرق عملها.
وبالرغم من هذه المآخذ والمشاكل التي عاقت عمل العدالة الانتقالية فإن ايماني بأهمية هذا العمل وضروريته لم تنتف باعتبار قناعتي الراسخة أن هذا المسار ضروري لا فقط لتجاوز جراح الماضي بل كذلك لاعادة قراءة تاريخ بلادنا وفهم انتكاسة الانظمة الوطنية المابعد استعمارية.
كنت إذن سعيدا ببدء حصص الاستماع وبالانتقال الى مرحلة جديدة من مسار العدالة الانتقالية.
لقد أعادتنا هذه الشهادات الى تاريخنا والى انحراف مشروع الحركة الوطنية بعد الاستقلال وقد كان هدف حركة التحرير الوطني هو استقلال البلاد عن المستعمر وبناء دولة حديثة ونظام سياسي يضمن مشاركة واسعة لأغلب المواطنين وكان هذا البرنامج السياسي نتيجة لتأثر قادة الحركة الوطنية بمبادئ الحداثة التي انحصر اشعاعها على المركز الاوروبي وبقيت مبادئ العقل وحرية الفرد والديمقراطية وحقوق الانسان حبيسة البلدان الاوروبية وعند خروجها الى الأطراف وانفتاحها على الآخر تناست الأنظمة الاوروبية هذه المبادئ الانسانية وسلطت على مستعمراتها لغة الاضطهاد والعجرفة الاستعمارية وبالرغم من توقه الى الكونية فقد انحسر البرنامج الحداثي في المركز ونفى اطلالة الحداثة على الآخر لتبقى برنامج الأنا الأوروبي.
وستجعل حركات التحرير الوطني من المشروع الحداثي أساس برنامجها السياسي في الصراع مع المستعمر وسيكون هذا المشروع نقطة انطلاق وركيزة بناء الدولة الحديثة عند وصولها الى السلطة وستعرف السنوات الأولى للاستقلال ثورات هامة في أغلب البلدان لتطبيق هذا البرنامج على عديد المستويات من تحديث للدولة والمجتمع وبناء المؤسسات العصرية وتحرير الاقتصاد من التبعية للمركز الاستعماري.
كما أن هذا البرنامج سيشمل كذلك الحياة السياسية والفكرية ويدعم تواجد العقل ويطوره ويفتح مجال الحريات لتشكل ربيع ما بعد استعماري.
إلا أن هذا المشروع الحداثي سيشهد انتكاسة كبرى بعد السنوات الأولى للاستقلال ليقع التراجع عن جانب الحريات والديمقراطية ويفسح المجال لصعود وبروز الأنظمة القومية وسيتراجع المشروع الحداثي تدريجيا ليقتصر على التحديث وينفي جانب الحرية والديمقراطية.
وسيصحب هذه الانتكاسة صعود آلة القمع والاستبداد والتي ستعمل كل ما في وسعها لاسكات كل الأصوات الرافضة لهذا التراجع والتي ستواصل التعلّق والدفاع عن المشروع الحداثي وعن جانب الحريات والديمقراطية فيه وهنا أستحضر كلمات الغائب نور الدين بن خذر والذي أشار في احدى مقالاته أن المعارضين في نهاية الستينات وبصفة خاصة مجموعة «برسبكتيف» هم الورثة الحقيقيون لبورقيبة ولمشروعه الحداثي والذي تضمن فيما تضمنه الى جانب تحديث الدولة والمجتمع ضمان الحريات والديمقراطية واحترام الفرد.
الا أن الأنظمة الما بعد كولونيالية ستفرض أنظمة سياسية قوية واستبدادية ترفض الاختلاف وتحاصر الحريات وتحدد الحياة السياسية في هيمنة الحزب الواحد وعبادة الشخص وتأليه الزعماء الجدد - وستتكفل الآلة القمعية بضبط وسحق كل الأصوات المناوئة والمختلفة -.
ستدخل كل هذه البلدان ليلا طويلا سيهيمن فيه التعذيب والضرب والعنف وستنتهك في هذا الليل أبسط حقوق الانسان وحتى انسانيته ليصبح فيه رقما في أيدي الجلادين.
وستنطلق الآلة القمعية في عملها مع رفاق الأمس في الحركة الوطنية الذين سيمسهم التشريد والاغتيال والمنافي ثم سيأتي دور الشباب الرافض في نهاية الستينات والحالم بمجتمع آخر تتحقق فيه العدالة والمساواة ثم سيجيء دور الاسلاميين منذ بداية الثمانينات لتشملهم بعجرفتها وحقدها.
عقود طويلة من الزمن عرف فيها الآلاف من الشباب أنكل أنواع القمع كما عرفت عائلاتهم خلال هذه السنوات الطويلة مآسي الخوف والانتظار والانتقال من سجن الى سجن لتتبع أخبار أبنائها - حكايات طويلة من العذاب والدموع والآلام وكذلك الأمل والحلم بانقشاع هذا الظلام يوما ما وبروز شمس يوم آخر - وقد قصّ العديد من الذين عادوا من هذه المآسي البعض من رواياتهم وشيئا من الألم في روايات وكتابات الأدب السجني - مكنت من رفع بعض الغطاء الذي تم وضعه على هذه الفترة المظلمة.
ثم جاءت ثورات الربيع العربي وفتحت أبواب الخروج من واقع الاستبداد وجعلت من التحوّل الديمقراطي أفق العمل السياسي - وقد خطت بلادنا أشواطا مهمة في هذا الاتجاه - عرفنا أول انتخابات ديمقراطية مكنتنا من انتخاب برلمان تأسيسي مهمته صياغة دستور الجمهورية الثانية - وبالرغم من الصعوبات التي صاحبت هذا المسار فقد تمكنا من صياغة دستور سيمكننا من مصالحة أنفسنا مع المشروع الحداثي بجعل الديمقراطية والحرية ركائز أساسية لنظامنا السياسي - ومصالحة أنفسنا مع ذواتنا من خلال التأكيد على أهمية الجانب الديني في نحت هويتنا - وقد تمكننا من بدء إعادة بناء مؤسسات الدولة على هذه الأسس الدستورية الجديدة.
وتعتبر مسألة العدالة الانتقالية محطة هامة في هذا المسار لأنها تطمح إلى طي صفحة الماضي الأليم وعدم نسيانه أو التغاضي عنه وفي نفس الوقت بدون حقد أو تشفي. ولئن شهد هذا المسار بعض التأخير وبعض الجدل فإن انطلاق حصص الاستماع يعيد الأمل الى العديد من ضحايا سنوات الاضطهاد. اننا جادون في هذا المسار وأنه قد حان الوقت لنضع أيدينا مع بعض وننطلق لبناء تونس جديدة اتعظت من دروس الماضي وستخلف لأبنائها ثقافة سياسية جديدة تحترم الانسان في انسانيته وتضمن له حرياته وحقوقه.
وهنا نريد التأكيد على أهمية حماية هذا المسار من كل انحراف ويجب المحافظة عليه ومواصلته في كنف المسؤولية لأنه سيوصلنا بعد المكاشفة والمحاسبة الى مصالحة حقيقية تضمن لنا شروط بناء مجتمع سياسي وعلاقات اجتماعية لا مجال فيها للعنف والحقد.