بالأمس، لمّا كنت شابّا بهيّا، كنت من اليسار عقلا وروحا. اليوم، في الستّين، أعتقد أنّي من اليمين بل وأرى في اليسار غلوّا ونظرا معتلا. بالأمس، لا أومن بالأنبياء ولا بالرسل. اليوم، يخامرني تردّد. مرّة، أومن بالقضاء وباليوم الآخر ومرّة، لا أومن بالقضاء وباليوم الآخر.في نفس اليوم، تارة أمشي على اليمين وتارة أمشي على اليسار...
كذلك أنا منذعقود، منذ أدركت الوجود. كذلك أنا، ريح تهزّها ريح. فكر متقلّب يحملني بين نقيض ونقيض... لماذا أنا دوما في تقلّب؟ لماذا لا أعرف اطمئنانا ولا سكونا؟أفليس لي فكر حتّى أتبيّن وأيقن وأستقيم؟ الى متى سأحيا في اضطراب، وقد سكن رأسي صخب وضجيج؟ أنا تعب وهذا فكري، في صراع، يتأرجح بين المتناقضات، بين رفض وقبول...
في ما أرى، أنا لست خيرا ولا شرّا. أنا لست مؤمنا ولا كافرا. أنا لست من اليمين ولا من اليسار. أنا بين الشكّ واليقين، بين التقوى والمجون، بين العقل والجنون، بين الملائكة والشياطين...
أعجب من الناس لمّا يقولون ويؤكّدون أنّ لهم ثوابت منتهيّة وأنّ لهم ايمانالا ريب فيه وأنّهم دوما على العهد، لا يتزحزحون، لا يتنازلون. لا يمسّ هؤلاء أبدا شكّ ولا ظنون.اطمأنت قلوبهم وسكنهم سكون...
حين أصغي لأهل السياسة وخاصّة منهم من كان في اليسار يسير، تراني أعجب ممّا يقوله قادتهم من قول ممجوج، من كلام يعيدونه كعصف مأكول، من مبادئ صمّاء، منتهيّة. أهلك أهل اليسار ما أصاب عقولهم من جمود، ما كان في أعينهم من نظر موصود، ما كان لهم من أطر وحدود... كذلك، يفعل ساسة الدين، في اليمين. حسب هؤلاء، الحرام بيّن والحلال بيّن والحقّ والباطل والخير والشرّ... لا سبيل عندهم الى اعادة النظر ولا الى السؤال ولا الى كسر المفاهيم. يمشي هؤلاء وأعينهم مشدودة الى الوراء. عند هؤلاء، كلّ نظر جديد بدعة وكل مبدع في الجحيم. عند هؤلاء، كل انكار أو شكّ هو ارتداد وحكم المرتدّ واضح، جليّ...
ذات عشيّة، التقيت شيخا عليه وقار المصلّين ذا لحية وعلى جبينه سمة... اقتربت منه. حييته فردّ .....