هنشير « المعمّر» نموذج حي لتلاشي الدولة واستشراء الفساد في العروق

نذكر بدءا بجملة من المعطيات التاريخية:

• بعد بداية تأميم المعمّرين في 12 / 05 / 1962 والانتهاء منها بعد سنتين رجع إلى الدولة 828570 هكتارا، وهو ما يعرف بالجلاء الزراعي في تونس. وتعتبر هذه الأراضي من أفضل ما بتونس من الناحية الزراعية. لكن في 1987 لم يبق تحت الدولة سوى 500 ألف هكتارا. وهذا الرقم يخفي قضية هامّة: ما هو مصير 328570 هكتار؟ خاصّة أنّ أرشيف وزارتي أملاك الدولة والفلاحة لا ينصّان على تحويل وجهة هذه النسبة الهامّة من الأراضي الفلاحية.

• قامت الدولة منذ التأميم بتقسيم هذه الأراضي: ويمتلك ديوان الأراضي الدواية حوالي نصف هذه الأراضي بينما تتوزع البقية على عدة ضيعات في مختلف أنحاء البلاد ...

• (1962 - 1969) كانت تجربة التعاضد التي ترتكز على إلغاء ملكية صغار الخواصّ وتعويضها بالملكية الجماعية والاستغلال الجماعي للأراضي الفلاحية في إطار ضيعات تعاضدية شاسعة وخصبة ، وتسهر الدولة على تدعيمها بتجهيزات عصرية . ويديرها مباشرة ديوان الأراضي الدولية.

• منذ الثمانينات شهدت البلاد تشريكا مكثّفا للخواصّ : فقد أقرّ برنامج الإصلاح الهيكلي الفلاحي : حيث تمّ تعميم الخوصصة فيما بقي من الضيعات والمؤسسات الفلاحية الحكومية والتعاضدية، وذلك أملا في تحقيق المزيد من النجاعة: ونذكّر في هذا السياق بسعي الدولة إلى إشراك البنوك بصفة ناجعة لدعم فلاحة الخواص من تشجيع على القروض الفلاحية واقتناء الآلات الفلاحية العصرية . وسهرت على تأطير الفلاحين في استعمال الأسمدة والأدوية. ولضمان الاستمرارية والتعهّد أحدثت الدولة هياكل جديدة تهدف الى دعم خوصصة الفلاحة مثل: وكالة النهوض بالاستثمارات الفلاحية، والجمعيات ذات المصلحة المشتركة، و شركات الإحياء والتنمية الفلاحية. ويمكن أن نقول في هذا السياق أنّ الدولة كانت ترمي إلى تشجيع التصدير وإدماج الفلاحة التونسية في نسق الاقتصاد العالمي واستجابة لفلسفة العولمة.

• للتعرّف عن قرب على توزيع أنواع الزراعات يمكن الاستئناس بجدول قامت به وزارة الفلاحة
توزع المساحات الزراعية الجملية :

• المهمّ في هذا الجدول، هو أنّ الثروات الفلاحية التابعة للأراضي الدولية متنوّعة وموزّعة جغرافيا من شمال البلاد إلى جنوبها.

• أنّ حادثة هنشير « المعمّر» ليست استثناء ، فما يمرّ به هذا الهنشير من صعوبات هو نفس ما تعيشه بقية الأراضي الدولية. فقد بينت تجربة الأراضي الدولية خطأ في المقاربة. من استغناء المستثمرين عن عدد من العاملين، وتخاذل الدولة فيما أقرته من قوانين تنصّ على المتابعة والإشراف، الأمر الذي أدّى إلى ترسّخ فكرة « رزق البيليك»، وأعتقد أنّ في اللفظة تحريفا لكلمة publique . ولعلّ أقوى دليل على ذلك الرقم الذي اشرنا إليه والذي ينصّ على أنّ الفساد كان ينخر البلاد منذ الثمانينات ، ونهبت مساحات تقارب مساحتها 33 ألف هكتار من طرف مجهولين.

• منذ 2011 عاشت الأراضي الدولية أزمات، نذكر منها: ظاهرة الاستيلاء على أراضي دولية، وإفساد المحاصيل، إذ لا ننسى حرق المحاصيل على سبيل المثال. الأمر الذي أدّى إلى قصور مالي واعتراف مستثمرين كثيرين بفشلهم وعدم قدرتهم حتى على تسديد أجور العاملين.

• نرجع كلّ ما ذكرنا إلى أسباب مباشرة وأخرى غير مباشرة، نذكر منها على سبيل المثال سياسة الدولة بين 2011 و 2013: الصمت العاجز أمام النهب العلني لأراضي الدولة، غياب التنسيق بين وزارتي الفلاحة وأملاك الدولة، وخاصّة الاستقالة التامّة من طرف الوكالات التي كانت الدولة قد أحدثتها منذ الثمانينات. فتُرك الحبل على الغارب، وأطلقت ايادي مجهولة تتصرّف بحريّة وبمنطق العروشية في أملاك ترجع قانونا بالنظر إلى الدولة.. واللافت أنّ الاعتصامات قلّت في هذه المنتجات الفلاحية منذ 2013، والسؤال: هل إنّ نقصها يعود إلى وعي؟ أم إلى تمكّن المفسدين من هذه القطاعات؟

واليوم، نحن نعيش أوّل بادرة صريحة وعلنية لترسيخ مبدإ العروشية في تقاسم الأراضي الزراعية ببلادنا، وهي فاتحة لبوادر أخرى تسعى إلى الخوصصة وتبتعد بنا عن مدنية الدولة، والسبب في ذلك تخاذل الدولة لمدّة خمس سنوات حتى تفسح المجال للفاسدين في الخراب الاقتصادي ، ثم يليه فشل الدولة لأنّها معزولة ، قانونا، من كلّ سلاح للرّدع. ولنستعدّ يا سادتي لمشاهد جديدة من الاعتصامات والخطب الإيديولوجية التي لا تنبع من واقع اقتصادي منهار، بل ستكون حتما سيفا قاصما لظهر هذا البلد.
في الأخير يجب أن نشير أنّ مهمّة هذه الحكومة عسيرة جدّا، فالمواجهة قدرها، وليس لها خيار غيره. قدرها أن تضرب بما أوتيت من قوّة « غولا» من أغوال الفساد الذي يتغذّى من دمائنا منذ سنوات، ونما وترعرع في السنوات الأخيرة. وكم أشفق عليها خاصّة عندما

أطّلع عن قرب على الأشواك التي وضعت في هذه البلاد، وفي وقت وجيز، إنّها أشواك تعمل جاهدة على إنزال الخراب ولا شيء غير الخراب، حتى تعمّ الفوضى « الهدّامة» عسى أن تحقّق بعض الأطماع الإيديولوجية مطامحها في طمس خصوصيات الدولة التونسية فيصير يسيرا تكريس خصوصيات مستوردة تجعلنا نصطفّ في خانة التبعية والحكم الفاشل.

توزع المساحات الزراعية الجملية :

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115