امام مجموعة تكونت من 30 عازفا تماهت الالات واتحدت النغمات لتقدم القوستو سهرة جد جميلة سهرة قوامها الاغنية الشعبية الجزائرية ومزيج بين موسيقى القبائل ومدائح المتصوفة وتراتيل اليهود لتقدم اغان لازالت تعاند الرجعية وتعاند من يدعون انهم خلقوا ليكونوا صوت الله في الارض اولئك الرافضين للموسيقى وللجمال.
عشقت المرآة فاعادت جمع الفرقة المشتتة
توزعت الالات على الركح، اكثر من ثلاثين الة وترية وتقليدية وايقاعية، العود والمندولين والبنقو والقيتارة و القانون والناي والدربوكة والبيانو، لكل الة سرها ولكل الة قصتها، لتقديم موسيقى هادئة حينا وراقصة حينا آخر موسيقى يتماهى فيها القبايلي مع الموسيقى الكلاسيكية وتمتزج مدائح الصوفيين مع اغاني الكنيست اليهودي ليقدموا خليطا موسيقيا هو عبارة عن فسيفساء كانت تعيشها الجزائر قبل الاستقلال وقيام ثورة التحرير، تلك هي موسيقى القوستو موسيقى السلم والحِلم والحلم موسيقى تستحضر المخزون الثقافي الجزائري المتعدد.
في ركح الحمامات امام جمهور مختلف ومتنوع وتحت نظرات القمر السادن اعلى السماء وقبالة البحر صورة ذكرت الشيخ محمد فريكيوي اكبر العازفين الذي اعاد بعث مجموعة القوستو بفضاء القصبة بالجزائر فاستمتع بالة الكورديون و عانقها كما طفلته الصغيرة تنلك الالة التي قال عنها «عشقت الموسيقى في صغري كنت حين اعزف الفالز او التانغو اشعر اني ا مراة عاشقة تراقص حبيبها» ومن حب الموسيقى انطلقت «القوستو من جديد».
ثلاثون آلة موسيقية ، ثلاثون عازفا اختلفت أعمارهم وافكارهم وانتماءاتهم واشتركوا في حب الموسيقى، حكاية القوستو انطلقت من مرآة فضية في دكان صغير في احد احياء مدينة القصبة الجزائرية، شيخ يصنع المرايا، دخلت احدى الزبونات اعجبت بالمرآة ، لا تتقن الفرنسية فاضطرت الى مترجم راقبت محمد فريكيوي وهو يصنع مرآته كمن يرسم لوحة فنية وبجولة سريعة في الدكان شاهدت صورا لموسيقيين قدامى وصوره وهو يحمل الة الاكورديون، اشترت المرآة وسألت عن قصة الصور ومن هناك انطلقت حكاية عودة «القوستو» ووجدت الفتاة نفسها «معجبة بحكاية عازف، ومغرمة بموسيقى لم تسمعها وجزائر لا تعرفها».
تنطلق النغمات هادئة من كل النغمات، اغنية تتغنى بالجزائر وتقدم ذكريات الطفولة نغمات القانون الرقيقة في حوار من العود وموسيقى المندولين تلك الالة الوترية شجية الالحان تتماهى النغمات وفجاة تصمت الالات جميعها ليتحدث الناي وبنغماته الحزينة يفتح المجال ويجيب عن اسئلة، لماذا «القوستو» لماذا تفرقت المجموعة؟ من باعث الفرقة ومانوعية الموسيقى التي قدموها؟ اسئلة كثيرة كانت الموسيقى و حدها الكفيلة بالاجابة عنها.
في الحمامات تتحدد النغمات وتصرح الالات ان لا ألاه الا الموسيقى ولا رسول اصدق من النوتة واللحن ولا وجود لمن هو أنقى من النغمات الساحرة وتعلن رفضها للسياسة والسياسيين فبسسب السياسة تشتت الفرقة وتفرق أبناؤها «كما اولاد الحجلة» كما تحدث القيتاريست طاحمي.
في سهرة مميزة حلم جمهور الحمامات ورقص وانتشى بأجمل الاغاني... أغاني تتغنى بالحب وتدعو الى العشق عشق الوطن والمراة والموسيقى ، شيوخ وشباب عزفوا أجمل النوتات وقدموا موسيقى الحنين للجزائر ا لتي كانت أريضا للقاء ومكان يجتمع فيه اليهودي والمسلم والموريسكي ليعزفوا ويقدموا أغاني تناشد السلام وفيها حنين الى القصبة بمقاهيها ودكاكينها حنين الى فضاء كان للشيخ محمد العنقاء مساهمة في تاسيسه ولقبو اجتمع فيه عشاق الموسيقى عام 1947 ليقدموا اجمل الالحان تاريخ سيحفظ في الذاكرة «القوستو» لان قبلها لم يكن يسمح للمسلمين بدخول «الكونسارفاتوار».
الموسيقى شدو الملائكة
بموسيقاهم تحدوا الموت وبحبهم للموسيقى عاندوا افكار رافضة للتعدية ورافضة لوجود الاخر، في القوستو اجمل النغمات وأرق الألحان والكلمات، حفل تراقص فيه الة المندولين صديقها القانون لتقديم نغمات تسحر العقل والقلب معا موسيقى تنسيك المكان والزمان و تتماهى مع عالم تنتفي فيه التفاصيل.
و للاشارة المندولين هي آلة وترية موسيقية شبيهة بالعُود lute ولكنها أصغر منه. وهي ذات أربعة أزواج أو خمسة أزواج ،ويتم العزف عليها بواسطة النقر على الأوتار عن طريق الريشة طولها 6 سم ومجالها الصوتي أوكتافين ونصف ويعود أصل هذه الآلة إلى القرن الخامس عشر حيث نشأت وتطُوّرت في القرن الثامن عشر للميلاد عن آلة الـ»مَندولا» mandola أو الـ«مَندورا» mandora الموسيقية وصُنعت من ثمَةّ في عديد من المدن الإيطالية. وتستخدم الماندولين لعزف المقطوعات الإفرادية وقد استخدمها موزارت في اوبرا جيوفاني عام 1787، ففي القرن الثامن عشر كانت تستخدم في الموسيقى الكلاسيكية واليوم توظف في الموسيقى الشعبية نغماتها كما امراة بربرية عنيدة ترفض الخنوع.
كذلك هي القوستو، مجموعة بعثها أولاد «الحاج محمد العنقاء» أب الموسيقى في القصبة (الجزائر)، في سنوات الاربعينات والخمسينات بعث اول كونسارفاتوار مختص في الموسيقى الشعبية الجزائرية، موسيقى تجمع الاندلسي والتراتيل ومدائح واغاني القبايلية، وفي بداية الخمسيانات انتشر ت هذه الموسيقى في كل احياء القصبة ومقاهيها، الى جانب العنقاء كان معه عازف القيتار «طاحمي» وبنغمات قيتارته تحدث عن الفترة التي عرفت فيها القوستو اوج عطائها من 1947 الى 1957 حين وصل عدد طلاب الموسيقى الى 2000طالب يدرسون في قبو يعلمهم العنقاء العزف والغناء.
القوستو عنوان للسلام وانعدام الانتماءات لانها مكونة من عازفين يهود ومسلمين «كنا اخوة نعيش الحياة نفسها ونعشق النغمات ذاتها» ولكن مع بداية ظهور FLN (جبهة التحرير الوطني الجزائرية) اصبح اليهود يعانون الكثير من المشاكل ومنع بعضهم من الغناء بالعربية لانه ليس بعربي، ووجد ROBERT عازف المندولين، و RENE عازف القيتارة وjose عازف العود و مانو عازف البيانو انفسهم غرباء في وطنهم الجزائر وقد ولدوا هناك وهم يتحدثون العربية ولا يعرفون وطنا غير الجزائر.
من الموسيقى ونغمات القانون والناي تتواصل القصة الموجعة ويعرف جمهور الحمامات ان للوضع العام تاثير على الخاص فمع اندلاع حرب التحرير الجزائرية والعمليات الغادرة التي قامت بها OAS (المنظمة المسلحة السرية) و وجد اليهود انفسهم بين FLN و OAS وكلتاها ترفض الموسيقى وترفض التعددية وخيروا بين «الفاليجة» أو «الموت» فاختاروا مغادرة القصبة وترك الجزائر، وضاعت اغاني القوستو وبعد الاستقلال ضاع ا لكثير من ملامح الجزائر كما جاء في روايات الكثير من كتاب الجزائر وشاءت «المرآة» بعد خمسين عاما من الفرقة ان تجمع مجموعة القوستو ويلتقي الاحياء ليقدموا عروضا انطلقت من عام 2008 ويجوبون العالم من جديد مع ادخال الكثير من الشبان حتى لا تمحي الموسيقى الشعبية التي اسسها العنقاء.
و قدمت مجموعة «القوستو» الجزائرية أمس ضمن فعاليات الدورة 52 لمهرجان الحمامات الدولي سهرة فنية أضفت البهجة و أجواء الفرح على جمهور المدارج التي امتلأت بحضور عدد كبير أغلبه من السياح الجزائريين .
مجموعة القوستو المتكونة من حوالي ثلاثين عنصرا أعادت إحياء الموروث الشعبي الجزائري مستوحى من عالم «شيخ العنقاء» الذي جمع اغاني الأحياء الجزائرية وأغاني الافراح و اختلطت فيها التأثيرات البربرية والأندلسية والفلامنكو و الاغاني الدينية المستمدة من اجواء «القصبة» بالجزائر العاصمة.
بين الآلات التقليدية كالعود و القانون و الناي والدربوكة و آلات اخرى كالبانغو و الماندولين تمايل جمهور المسرح تفاعلا مع أنغام لامست الاندثار لولا لقاء عناصر مجموعة القوستو بعد حوالي خمسين عاما.
مجموعة القوستو جابت انحاء العالم حفاظا على الموروث الشعبي الجزائري و كانت ليلة أمس في الحمامات من اجمل ما قدمت المجموعة على حد تعبيرهم.
في سهرة جد استثنائية رقص الجمهور وفتح الف باب للسؤال واجاب عما سكنه من هواجس، في سهرة القوستو ابدع العازفون وتماهت النغمات واتحدت وحطمت كل الحواجز واكدت ان الموسيقى قادرة على تجاوز المحظور والممنوع فالموسيقى قادرة على السفر في الزمان والمكان، وقادرة على ايقاف من يدعون انهم اولياء الله في الارض اولئك الذين يفرقون بين الانسان وأخيه الانسان، اغاني القوستو جميعها اما بلهجة جزائرية او بفرنسية بسيطة تجاوب معها جمهور الحمامات الدولي، سهرة شعارها «ان كنت سياسي او متدين فانا انسان».