ينقل الى الجمهور الدراما الرمضانية سيرة المتعبين من وجع الحياة وقسوة السلطة والانظمة التي مرت على تونس.
الجبل الاحمر بين الحقيقة والدراما هناك تشابه كبير من حيث معاناة الناس واحلامهم الكثيرة المجهضة وتعسف السلطة تجاه ابناء الاحياء الشعبية.
الجبل الاحمر جبال والمواضيع الاجتماعية مفتاح العمل
المكان هو سيرة الانسان له تأثيره المباشر منذ القديم، المكان في كثير من الكتابات هو الهوية، ذلك ان للصحراوي طبائع وشمائل تختلف عن ساكن الغابة والجبل، وللحضري اخلاقيات تتباين مع اخلاقيات الريفي، فللمكان خصوصياته وللمكان تأثيره المباشر على سلوكيات ساكنيه، وهناك دائما عملية تأثّر وتأثير بين المكان وساكنه، هي علاقة التصاق والتزام تصنع شخصية الانسان وتطبع سلوكياته وافكاره من هذه النقطة ينطلق كاتب سيناريو "الجبل الاحمر" في تتبع سيرة الانسان ساكن الجبل، الحي الشعبي الرازح تحت وطأة التفقير وتهميش السلطة.
يختار المخرج فضاء مكانيا عبارة عن حيّ شعبي يوجد في العاصمة التونسية (الجبل الأحمر من الاحياء الشعبية المعروفة بانتشار الجريمة وهو في قمة ترتيب اخطر الأحياء حسب الاحصائيات الامنية)، اختاره عينة لدراسة سوسيولوجية درامية يقدمها بلقطات سينمائية وأداء تمثيلي مسرحي لجمهور الدراما الرمضانية، تشكيلة من الابداعات تقدم جميعها لحكاية سيرة المكان والانسان ومدى التلازم بينهما.
"الجبل" في المسلسل ليس بالضرورة الحي الشعبي الموجود في العاصمة، فالشخصيات وما تعيشه من صراع يومي من اجل البقاء، والمواضيع المجتمعية المطروحة جميعها تنطبق على كل حيّ شعبي وعلى كل منطقة مهمشة موجودة على خريطة الجمهورية التونسية، ربما يتغير اسم المكان من "الجبل الاحمر" في العاصمة الى "حي هلال" او "فوشانة" من ولاية بن عروس ، قد يكون "حي بوحسينة" او "الطفالة" من ولاية سوسة، وربما هو "حي الفيتنام" او "حي السردينة" في صفاقس او "الفلوجة" من معتمدية جمّال ولاية المنستير فالاسماء تختلف لكن المعنى واحد احياء شعبية تعاني من انتشار الفقر والبطالة وتزايد ظاهرة استهلاك المخدرات والجريمة.
ينعكس المكان على ساكنيه، يحمّلهم وزر تهميش السلطة له، فيخلق داخله مواطنين "تعاملهم الدولة على اساس انهم من درجة ثانية) يحلمون فقط بحياة كريمة، يحلمون بتحقيق القليل من السعادة المسروقة، مواطنون تنتشر بينهم البطالة (خريج الجامعة يعمل جنّان) واقصى احلام الشباب قبولهم في سلك الامن.
الجريمة، المخدرات، والصراع بين الطبقات من شيفرات المسلسل
يضع المكان ساكنيه في خندق ضيق محاط بالتهميش والجريمة فيلتجئ ابناؤه اليه ويصنعون حصنهم المنيع المتمثل في "المخدرات" من "الكولفور" الى "السوبيتكس" الى "القنب الهندي" وكل الانواع التي تذهب العقل وتهلك الجسد ويحاول مستهلكها نسيان واقعه وعيش لحظات من سعادة وهمية تكون نتيجتها "الموت" او "السجن".
"الجبل الاحمر" سيناريو كتب بصور واقعية مع الكثير من التشويق، شخصيات جديدة تظهر في كل حلقة لتزيد من غموض العمل وصعوبة فهم احداثه ومدى الترابط بينها، لكن متعة اداء الممثل ومدى واقعية الحكايات والرغبة في فك الشيفرات الغامضة ربما من مميزات المسلسل.
المسلسل ينقل تناقضات المجتمع التونسي والتحولات الاجتماعية التي عرفتها تونس في العقود الاخيرة ومدى تأثيرها على قاع المجتمع من خلال شخصية "ليما" (نصر الدين السهيلي) شخصية لمحارب حقيقي يحارب الفقر والتهميش ويحاول ان يصنع لنفسه وابنته حياة اخرى، يصارع رجال الامن ويصارع المتحكمين في سوق الشغل والمخدرات، "ليما" الشخصية الباحثة عن توزان نفسي في مكان مريض.
"الجبل الاحمر" وثيقة اجتماعية يمكن تحليلها انطلاقا من الابعاد الاجتماعية الكثيرة المطروحة في العمل، اولها الصراع والهوة الكبيرة بين الطبقات، بين "برجوازية" تشتري الاحلام وتتجاوز القانون بالمال ممثلة في شخصية "عبد الملك عبد الصمد" (محمد السياري) القادر على التدخل في الاحكام القضائية والديوانة (انا نحكم في البلاد)، و"طبقة شبه مسحوقة" تضيع احلامها البسيطة امامها تمثلها شخصية "فوزي" خريج الجامعة العارف بمفاهيم الاقتصاد لكنه يشتغل "جنّان"، في اطار الصراع بين الطبقات وحتى المواد المخدرة تختلف حسب ما يملكه مستهلكها من اموال، وشتان بين مستهلك "القنب الهندي" المخلوط (ابناء الجبل) ومستهلكي "الغبرة النظيفة" ابناء الطبقات البرجوازية تحديدا شخصية اسكندر (مجد بلغيث) احد ابناء عبد الملك عبد الصمد، فالهوة بين الطبقات إحدى المواضيع الاجتماعية المطروحة في مسلسل يرشح بألم المهمّشين.
الدراما في جزء منها انعكاس للواقع هكذا تقول أحداث مسلسل "الجبل الاحمر" الذي يبرز للمتلقي عدم نجاح العلاقات الاجتماعية والزوجية غير المتوافقة من خلال شخصيتي "زليخة" و"لمين" فهي مثقفة قوية الشخصية، تحسن القراءة وتتحدث اللغات الاجنبية، بينما زوجها ترك مقاعد الدراسة صغيرا والهوة الفكرية بينهما جد سحيقة مما جعل قيمة الحب تتراجع امام بشاعة الواقع.
الدراما وسيلة لمزيد كشف الحقائق وإبراز تقصير الدولة وظلمها لأبناء الأحياء الشعبية، هي كذلك سلاح ينتصر به المخرج للأحلام المؤجلة، ينصت كاتب النص لوجع المهمشين، تلتقط العدسة سير وجوه ترك عليها الزمن ندوب الخوف والتعب، جميعها يعاد صياغتها دراميا لتقدم في مسلسل درامي اخذ المكان حيزا كبيرا فيه، فلم يعد الجبل مكان بل أصبح وسم وهوية.