تمثيل علاء الدين شويرف واباء حملي و هيثم العويني وميساء ساسي ومحمد شوقي خوجة ومحمد الياس العبيدي ، و»دوالب» تنقل صراعا بخصوص «من سيحكم من؟» ومن يحرّك من، صراعات عديدة يقودها الدين ورأس المال، تعرية للمجتمع التونسي بطريقة ساخرة مضحكة وموجعة.
سخرية الضوء واللون
عين الانسان كاميرا مصغرة تلتقط كل الصور وتحفظها في الذاكرة، فما الذي بقي من عرض دوالب، سؤال يمكن الاجابة عنه بسخرية الضوء واللون، في دوالب اعتمد المخرج على ضوء اصفر يميل الى الحمرة رمز الضجر والقلق، لون غير مريح يقلق المشاهد وكان بالمخرج يتعمد استفزاز المتفرج ليدفعه للمشاركة في الاحداث.
ثنائية اللون الاصفر والعتمة يتجول بينهما الممثلون والأحداث، فنادرا ما تشاهد وجه الممثل واضح التقاسيم بل نصف مخفي والآخر بارز كما الحقيقةنادرا ماتكون كاملة.
في «دوالب» اعتمد المخرج على السخرية في الألوان فالشيخ «الشريف» ألبسه اللون الزهري، لون الجمال و البهاء والأمل بينما هو يقود عصابة تهرب الاثار، شيخ بلحية مخضبة بالحناء يلبس اللون الزهري والوردي وهي الوان عادة مايستعملونها للدلالة على «المثلية» في المعتقد الشعبي، وكان المخرج يقول ان الرجولة ليست في الجسد بل في الفعل وهل يمكن إطلاق كلمة «رجل» على من يخون وطنه.
ومن مظاهر الكاريكاتور أيضا إلباس «ليليا» تلك الفتاة التي لا تملك موقفا أو شخصية وهي كآلة يحركها شقيقها تلبس الاصفر رمز الثقة بالنفس والقوة، كذلك دليلة صاحبة الاعمال والأموال الطموح ترتدي ثوبا رقيقا ناعما كطفلة صغيرة، متناقضات عديدة اراد عبرها المخرج كشف التباين البغيض الذي نعيش على وقعه، سخرية بالضوء واللون تحدت سخرية النص وتجاوزته احيانا.
العاجز العتمة والظلامية كلاهما سلاح
ظلام يسيطر على الركح، حركة الشخصيات عنيفة على الركح ضربات قوية تصاحبها موسيقى كما موسيقى الحرب او الفوضى لباسهم موحد كلهم يرتدي اللون الاسود لما له من رمزية العنف والظلامية والعتمة و السوداوية واللاقيم واللااخلاق، على الركح يتحركون بعنف كمن يريد التخلص من ذنب يلازمه او تهمة يلاحقه شبحها، بسواد في الملابس وعتمة على الركح تنطلق «دوالب».
منذ العنوان يمكن السؤال لماذا «دوالب؟» ما معناه وما المقصود، وبعد ساعة يعرف المتفرج ان للمسرحية العديد من الدلالات والرسائل «الدولاب» بمعناه اللغوي وهو محرك الأشياء والدولاب في لهجتنا التونسية بمعنى راس المال و التهريب و«تدبير الراس» كما يقول البعض وفي «دوالب» طرح لسؤال من يحرك من؟ هل رأس المال يحرك الدين؟ ام الدين يحرك المال؟ هل هناك قوى اخرى تحركنا وتتحكم فينا دون وعينا؟ وهل نحن من نتحكم في تصرفاتنا وقراراتنا أم هناك «الحاجة» التي تتحكم فينا وتحركات، من يحرّك من؟ من يحرك دواليب هذا الوطن؟ من يحرك القيم و يغيرها؟ أسئلة طرحها يوسف مارس في مسرحيته الجديدة دوالب.
«دوالب» حكاية صراع راس المال مع الدين والقيم، صراع الامني الشريف وزميله الخائن، صراع البحث عن الذات وسط مستنقع السرقة و المال، هي دوالب توظيف الدين في التجارة و الانتهازية وسرقة اثار البلاد و بيع الذمم وشراء النزهاء فقط لتحقيق المصلحة الذاتية.
في «دوالب» الكل يصارع، جميعم في نزاع متواصل، لكل شخصية هي نقطة ضعف يحاول البقية استغلالها ولكل شخصية ذكريات مؤلمة يوظفونها لصالحهم.
تدور احداث المسرحية في احدى المنازل في ربوع هذا الوطن، شخصيات الأحداث: دليلة « اباء حملي» الحالمة بمركز تجاري كبير امراة انموذج لمن تحطمت نفسيا بسبب تعرضها للاغتصاب أكثر من مرة فالإجهاض ومعه تحولت الى الة تعشق المادة، لا تعرف للانسانية طريقا حلمها ان تكون الاقوى والأغنى بالمال تخفي ضعفا داخليا وحنينا الى طفولة منسية كانت تحلم فيها ان تصبح مهندسة.
و«الشريف» «محمد الياس العبيدي»اسم على غير مسمى كما يقال رجل انتهازي قاتل يميل الى سفك الدماء والجريمة وجد في الدين افضل السبل للاستغناء وتحقيق اموال وارباح منقطعة النظير يعشق المادة ويرى في الجميع ادوات يحركها، متأسلم يرسل الشباب للجهاد لنيل الكرامة و الحسنات وفي الوقت ذاته يدير خمارة ويعمل في التهريب، الشريف رمز لمن ظهروا بعد الثورة اولئك الذين اختفوا وراء قناع الدين للسرقة و التقرب الى شيوخهم لمزيد من الثراء.
فالشرقي «علاء الدين شويرف» شاب يساري متمرد على المنظومة تجبره الظروف ليصبح قاتلا بعد ان كذبوا عليه واخبروه ان احد الامنيين اغتصب اخته ومن القتل يصبح متاسلما صحبة «الاخوان» يريد اعلاء كلمة الحق في ليبيا، فليليا «ميساء ساسي» فتاة بسيطة تجد نفسها وسط منظومة فاسدة تتعرض للاغتصاب من أعداء أخيها وأخيرا محرك الاحداث «جميل» «محمد شوقي خوجة الفتى المريض ومنه تنطلق الاحداث ويكون المحرك الاول لها.
شخصيات متباينة وأحداث اكثر تباينا تقدم صورة عن الصراع الذي يعيشه التونسي، في دوالب الكل يصارع الكل، تتحرك «الدوالب» كما طواحين هواء دون كيشوت لا تطحن الهواء بل تقوم بطحن الوجيعة والغدر والاغتصاب والظلم والحيف والسرقة « كرهتكم، ساقتل نفاقكم، قبحكم، وكذبكم، سأقتل لا مبالاتكم» هكذا تحدث الشرقي في آخر المسرحية والقتل ليس بمعناه المادي بل هو قتل معنوي الهدف ومنه اعادة بعث قيم جديدة، في دوالب يوجه الممثلون والمخرج رسالة مفادها ان الظلامية هي سلاح العاجز والظلم سلاح الضعيف فالقوي قادر على الهدم وإعادة البناء عكس الضعيف يهد المنظومة ويبكي فوق ركامها.
تكتيتك الممثل جوهر الفعل المسرحي
ركح خال من الديكور، فقط ست حقائب وضعت في الركن، زينة الركح هم الممثلون، هم الة تحريك الأحداث هم الكراسي احيانا وهم رمز الضوء، ستة ممثلين من اجسادهم اندلعت الأحداث بحركاتهم على الركح يعبرون عن الغضب والعنف، بإشارات اياديهم وطريقة تحريك الرؤوس والأجساد يكتبون ملحمتهم فوق الركح، أصواتهم اشاراتهم، اجسادهم وحقائبهم المحمولة هي الديكور، و عدم تاثيث المسرحية بديكور اختيار من المخرج فالممثلين هم قوام العمل وليس الديكور كما قال يوسف مارس.
لكل ممثل طريقة مميزة في ايصال رسالته ونصه، حين تشاهد «دوالب» تشعر انك جزء من المسرحية فكثيرة هي المشاهد التي يخاطبون فيها المتفرج ومرات تراك وكأنك تشاهد «برايف» ولست امام عرض اول فهم تلقائيون على الركح.
لكل ممثل ميزته، علاء الدين شويرف اضحك الجمهور وان كان دوره جديا ورسميا للغاية، وإباء حملي ممثلة جريئة تشعرك انك تشاهد فلما سينمائيا ولست امام عمل مسرحي واثقة بنفسها تقنع المشاهد وتشده لحركاتها وطريقتها الخاصة في التعامل مع الص، والرقيقة ميساء ساسي اقنعت المتفرج وهي تؤدي دور الفتاة المغتصبة المنهكة فبدت تائهة كورقة خريف، وأبدع محمد شوقي خوجة في دور «جميّل» لأنه قدم صورة اخرى غير دوره في ارض الفراشات وقلب الرحى فبدا في شكل اخر وقدرة على شد الانتباه وأبدع في تجسيد دور مخالف لما عرف به، كذلك هيثم العويني في دور رجل المباحث مضحك وقاس في الوقت ذاته.
لا ديكور على الركح فقط تكتيك الممثلين وحركاتهم وطريقتهم المميزة في اداء النص، ملابسهم هي الفاصل بين الاحداث، وحين يتغير اللباس تتغير الشخصية وبسرعة فتجدك امام رجل البوليس وفي طرفة عين يلبس زي القاتل.
غياب الديكور ربما يندرج في اطار المسرح الفقير و يقول كروتوفسكي في مقالته عن المسرح الفقير :»ينفد صبري أحيانا عندما يسألني سائل : ما هو الأصل في عروضك المسرحية التجريبية؟». فمثل هذا السؤال يفترض مسبقا أن العمل المسرحي التجريبي لابد وأن يستخدم تكتيكا جديدا في كل مرة وأنه الفرع وليس الأصل..
و عروضنا في المعمل المسرحي تسير في اتجاه آخر. فنحن نحاول في المقام الأول أن نتحاشي اتباع أسلوب واحد بل ننتقي ما نعتبره الأفضل من مختلف الأساليب، محاولين في ذلك أن نقاوم التفكير في المسرح باعتباره تجميعا لعدة تخصصات فنية. ونحن نهدف الي تحديد طبيعة المسرح التي تميزه عن سائر فنون العرض والأداء. وثانيا فإن عروضنا هي عبارة عن بحوث مستفيضة في العلاقة بين الممثل والجمهور. وبمعني آخر فنحن نعتبر أن تكتيك الممثل هو جوهر الفن المسرحي» كذلك هم الممثلون في «دوالب» هم رمز نجاح العمل.
«دوالب» في عرضها الاول اقنعت الجمهور رغم الهنات، فالممثلون لازالوا يقفون في العتمة ويتركون الضوء جانبا، وفي احد المشاهد يفترض ان يحمل الممثلين مصباح يدوي وعوض تركيزه على وجه الشخصية الاخرى يضيع الضوء في الهباء، وكذلك هناك صراخ مفرط فيه خاصة في مشهدين اثنين الاول مشهد الاغتصاب و الثاني حين يريد الشريف طرد ليليا من منزلها صراخ لا مبرر له في العمل، هنات قد يتم تجاوزها في العروض القادمة ولكن دوالب تكشف القبح الساكن عند البعض.