مسرحية «حدائق الأسرار» لمحمد الحر من المغرب ضمن أيام قرطاج المسرحية: في صراع الأجيال وصراع الأفكار ينتصر الفن للإنسان

يصنع عالمه الإبداعي الناقد، يضع مجتمعه أمام مرأة الحقيقة، يحوّل تشتت المجتمعات وصراع الأجيال الى الركح، ليكتب من جديد نظرة خاصة

ومختلفة للموجود، ينحت مساراته المسرحية بجدية ويشاكس الواقع ويطرح فكرة التغيير هكذا هو المسرح لدى المخرج المغربي محمد الحرّ.. مساحة حرة للتجديد.
طرح فلسفي مسرحي قدّم في مسرحية «حدائق الاسرار» اخراج محمد الحر وتمثيل ياسين أحجام وهاجر لحميدي وجليلة التلمساني ضمن المسابقة الرسمية للدورة الثالثة والعشرين لايام قرطاج المسرحية.
التجريب بغاية التجديد في الفرجة والمضمون
«حدائق الأسرار» عمل لا يغازل ولا يجامل يتوجه مباشرة الى القلب والفكر، يحمل في طياته هما فنيا ولبنات مشروع مجتمع يتحرر من آفة الانغلاق على نفسه، عمل يتجرأ على الوصاية الأبوية والذكورية في مجتمعاتنا العربية.
«حدائق الأسرار» هو اسم العمل، والعنوان في المسرح هو العتبة الأولى للدخول الى عالم المسرحية ومحاولة فهمها وتفكيك جزئياتها الدرامية والفنية ورسائلها الانسانية أيضا، «حدائق الاسرار» عنوان مركب من مترادفتين، الأولى بما تعنيه من خضرة ومكان للراحة النفسية والذهنية، بينما كلمة «اسرار» تحيل دائما الى اللون الأسود، الى الحكاية المخبأة في دهاليز الذاكرة وخبايا القلب، الأسرار عادة ما تحيل الى الوجع النفسي وثقل إخفاءه على القلب والروح، فالعنوان هنا يحمل مترادفتين متناقضتين من حيث المعنى، وهو سبب للتفكير وكأننا بمحمد الحر يضع متفرجه منذ البداية امام عتبات السؤال ويخبره انه لن يجامل او يغازل بل سيكون التفكير والحيرة مآله.
الركح خاو من الديكورالكثير، فقط في الجانب الأيسر تمثال لرأس رجل يسلط فوقه الضوء والى اليمين مجموعة اوراق منها فانوس للإضاءة، اما المربع الاوسط فخاو تماما، كانه خواء الروح البشرية وقت الالم،الإضاءة تنتشر كامل الفضاء ربما عبرها يريد المخرج فضح الحكاية وكشف جميع الاسرار.
ثم يرتفع صوت ويقول «ما تسمعونه الان هو صوتي وما ترونه الان داخل الحيز الضوئي ذاك انا، قد تدخل ولا تشعر بوجودي، ذلك انا صوت بلا وجه، بلا اسم، لا يهم الاسم فحينما يطرد المرء من الجنة يكون اول عقاب خسارة اسمه» فالصوت المتدفق من الظلمة هو صوت المخرج، بقليل من التركيز نكتشف وجوده اقصى يمين الركح، يضيء «الكونسولت» بشمعة تنطفئ مع نهاية المسرحية.
فالمخرج سيكون جزءا من اللعبة الدرامية، يحضر بصوته وسط العرض، يساهم في اشعال الاضاءة وتغيير بعض الديكور، يحضر جسده في الفضاء لكنه في انعزال مطلق عن الشخصيات، تجربة مسرحية مختلفة يقدمها محمد الحر في مسرحيته «حدائق الاسرار»، فالعمل مشروع اعتمد على اللغة البصرية والموسيقى التشكيلية التي يطغى عليها عنصر الصمت والايقاع البطيء في سياق التجيد والاختلاف عن المسرح التقليدي، لانّ محمد الحرّ مخرج يبحث في اعماله عن التصور الجديد والمختلف عن السائد.
تشتت العائلة ونفاق المجتمع تيمة العمل الاساسية
تقسم الاضاءة فضاء العرض، تحدده كما يحدد كاتب النص الأفكار والشخصيات، على الركح يظهر شخصين، جسد امرأة ورجل، يتحركان دون إحداث الضجيج، لا وجود لنص منطوق، بل يعرض على شاشة خلف الركح، هما رجل وامراة الصمت بينهما دلالة القطيعة، كل اجزاء الديكور القليلة توظف في العمل.
يصرخ الرجل كثيرا (صوت صوت) وتقطع المراة شرايينها اكثر من مرة دون الوصول الى الموت وصوت ثالث يقول «هذه الصورة اعرفها كثيرا، لقد تكررت اكثر من مرة» ثم يفتح «باب الريح» فتصبح الموسيقى قوية في انسجامها مع صوت الرياح، تتطاير الاوراق وتتناثر الحكايات وتبدئ الاسرار في الانفضاح والرياح هنا تنطلق من الة «المروحة» الموضوعة على الركح، فالتجريب في العمل يشمل كل عناصر السينوغرافيا تقريبا.
المراة والرجل، زوجان متصلان منفصلان، متصلان بعقد القران ومنفصلان روحيا وجسديا، كل منهما ضحية المجتمع الغني والمحافظ، كل منهما ضحية تزويج «رؤوس الاموال لا الكائنات»، في مسرحيته يكشف الحرّ ان الرجل في المجتمعات العربية ضحية أيضا، فهو يعاني كما المرأة من ظلم العائلة والالم النفسي وانعدام الحبّ، معاناة المراة لها مبرراتها، اما الرجل فوحده يصنع المه، او هو شريك في الجريمة كما تقول أحداث المسرحية، التي تبدأ من نهايتها، فالحرّ يقلب الأحداث وكأنك تقرأ كتابا من اخره ثم تعود الى صفحاته الاولى، لعبة مسرحية ممتعة أتقن تجسيدها ممثلون خبروا الركح وعرفوا قدرة المسرح على التغيير.
تتشتت الاضاءة، تتغير الوانها، يفتح ذاك الباب الرمادي الخلفي ومعه يتختلف النسق الموسيقي المتبع،ليجد المتفرج نفسه امام تشتت عائلة ما، انهيار لفكرة الوحدة بين افراد العائلة الواحدة، تشتت لا يعبر عنه بنص منطوق بل بصمت طويل، وخطوات مضطربة وحركات فم متسارعة، تشتت الام عن ابنتها وإجبارها إياها للزواج من رجل لا تريده، هنا تنفح الجراح القديمة وتعود نفس المأساة للظهور من جديد على سطح الأحداث، وكان المجتمعات العربية حكمت بالعادة، والسائد، وكاّن الحب حكم عليه بالإعدام منذ جنون قيس بليلاه و»كلمة احبك تصدآ في الفم إن لم نجد لمن نقولها».
تختلف الاجيال، تتصارع الافكار، تتغير المنظومات والعائلة العربية لازالت تتمسك بتقاليدها في تزويج البنات، ثورة عائلية يخوضها الممثلون على المسرح، دعوة لتغيير العقلية، لانتصار الحب واختيار الفردي امام سطوة التقاليد ورجعيتها، شخصية البنت في المسرحية تكون متمردة، باحثة عن ذاتها واستقلاليتها، ترفض فكرة الزواج التقليدي وتريد الزواج بمن اختاره القلب «حياتي وانا حرة فيها، انا نقرر متى تنهي الحكاية».
تمرد الفتاة، يفتح أدراج ذاكرة الامّ ويضعها أمام مرآة ذاتها لتسال «لماذا لم اكن املك جرأتها، اي قوة زرعتها فيها ام خانعة وروح ميتة؟ لماذا صمتت حين قرروا تزويجي؟» هذه الاسئلة تفتح في حوار الذات مع ذاتها، وتمرد الفتاة على العائلة هو رديف لتمرد شباب اليوم على المنظومات القديمة، والرغبة في الجديد واعمال العقل بدل التسليم بالموجود.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115