فذاكرة المرأة حية دائما وقلب الفنان نابض أبدا بقصص الأولين وبطولات وأمجاد من صنعوا مجد المدينة والوطن، بالمسرح تحمل منال عبد القوي جزيرتها بين جنبات القلب، تسكنها كما يسكن الوليد حضن امه الدافئ، تتغنى بها، تتغزل بجمالها وسحر طقسها وكرم أهلها.
منال عبد القوي تحمل جربة في ذاكرتها وتستنشق عبق طفولتها وتقنع متابعيها بتصفح المواقع والكتب لاكتشاف سحر الجزيرة، وضمن فعاليات تظاهرة «جربة تحتفل» على هامش تنظيم تونس للقمة الفرنكفونية تقدم منال عبد القوي اليوم الخميس 17نوفمبر عرضها المسرحي الغنائي «جاربا» نص واخراج لزهير بن تردايت وغناء حسن عرّوم وايقاع (طبل جربي) لسعد المليتي وتنشيط زهير الحجام، جميعهم يحملون الجزيرة وتاريخها وخصوصياتها اينما ولّوا.
«جاربا» المرأة والوطن، جربة الذاكرة والتاريخ، جربة الانفتاح والموروث، جاربا ذاكرة مدينة تعيد تشكيلها مسرحيا فنانة احبت مدينتها واختارت المسرح مساحتها الحرة للتعبير فكان العرض مشحونا بطاقة من الصدق والحب، امام ساحة متحف العادات والتقاليد وبحضور جماهيري غفير كان العرض الاول لجاربا (مساء الاحد 14نوفمبر)، جمهور بعضه يزور المتحف للمرة الاولى «اول مرة نجي للمتحف، على الاقل منال جمعتنا» كما علقت احدى المتفرجات وهي منبهرة بجمالية المكان.
«جاربا» عرض تماهت فيه الموسيقى والمسرح، العرض عبارة عن رحلة تاريخية تقدمها منال عبد القوي لتجمع الحكاية بالتمثيل مع ايقاعات الجزيرة التقليدية، بسطة تاريخية وجولة جغرافية يتعرف من خلالها الحضور على جزيرة جربة، فالجزيرة تحملها منال عبد القوي كلما صعدت على الركح، تحملها اينما سافرت من خلال لباسها وفلكلورها، كذلك لهجتها المميزة جدا، فالفنانة تحافظ على خصوصيتها وهوية جزيرتها التي تهواها.
يندفع صوت الطبل الجربي بإيقاعه المختلف معلنا عن بداية الموعد مع الفرح، صوته يزداد قوة كأنه يتماهى مع اصوات المدافع والقذائف الكثيرة التي عرفتها الجزيرة منذ التاريخ القديم، فهي مطمع الاسبان والبيزنطيين والأتراك وكل الباحثين عن «اللوطوس» ومكان غني بالثروات الطبيعية وجمال منقطع النذير، تقطع الفنانة بصوتها الصادح صوت الطبل وحديث الحرب لتحمل الحضور الى عالم من الفرحة، تظهر الى جمهورها بالطبعية الجربية البيضاء الموشاة بخطين احمر وبرتقالي (الملحفة التي تلتحف بها النساء)، تضع على الجبين الوشوش، تزين الرقبة بالشعيرية الجربية التقليدية والخلخال يصنع موسيقاه المميزة، بلباس جربي جد جميل يبهج عين المتفرج تنطلق رحلة الممثلة مع الفرحة، تغني للجزيرة «دز جوابين لجربة، دز جوابين، سلمي على ممو العين جربة» قبل ان تحدثهم عن تاريخ هذه الجزيرة وتستحضر قصص كل الحضارات التي مرت على ارض يحيط بها الماء، لؤلؤة تونس كما سماها كاتب النص، جوهرة فريدة كانت قبلة للباحثين عن الكنوز والثروات واليوم قبلة للباحثين عن الهدوء وجمال الطبيعة وفضاء التسامح واللقاء.
في جربة يحلو اللقاء، في الجزيرة تجتمع الاديان والأطياف والاختلافات، مدينة تمتص كل الاختلافات وتحولها الى تسامح، على ارض الجزيرة وفي مربع جغرافي ضيق تجد الجوامع باختلاف صوامعها، والكنيسة ومعبد اليهود، ديانات ثلاث اجتمعت في مكان واحد، ولازال مقهى «الحاج حسن» يجمع المنتمين لكل الاطياف صباحا تحت شجرة التوت العملاقة يحتسون قهوة «الفيلتر» اللذيذة، جربة فضاء جغرافي جمع الاقليات الدينية والعرقية والمذهبية واحتضنها لتنصهر في النسيج المجتمعي الفاعل، من الذاكرة القديمة للمدينة تبدأ الفنانة في سرد حكايتها «حكاية مرا مزيانة، حكاية مدينة ساحرة، حكاية ارض ووطن، حكاية الجزيرة، وحكاية تونس الشامخة».
«جزيرة اللوطفاج»، «جزيرة فلا»، «مينانكس» و»جيربا» فجربة جزيرة الاحلام نقطة العبور بين بلدان جنوب الصحراء والمتوسط، جميعها تسميات لمدينة واحدة هي جربة التي احبتها منال عبد القوي فكتبتها على الركح غناء وتمثيل، جربة التي دافع عنها زهير بن تردايت في كتاباته فأصبحت قصيدة جميلة تبهر الزائر وتذهل المستمعين لبطولات أبنائها.
«جاربا» عرض مسرحي موسيقي اعاد منال عبد القوي الى الركح بعد ثلاثة أعوام من الغياب، هاهي ابنة الجزيرة تنتفض من مرضها وألمها وتحول الوجع الى قصة حبّ تقدمها على الركح، بنص شاعري يتغزل بجربة وتاريخها ترقص منال امام جمهورها، تنفض عنها غبار الوجع وتقف شامخة تماما كأبراج جربة «برج الغازي مصطفى» فالجزيرة وعبر السنين حوّل ابنائها مرارة الغزو وظلم الغزاة الى عمارة فريدة يفتخرون بها اليوم، وفي بهو متحف جربة للعادات والتقاليد قدمت الممثلة جزء من سيرة مكان لازالت النساء تحرسه، فكانت جربة النص وجربة المسرحية وجربة امرأة عاشقة حولتها منال عبد القوي الى نوتة سلام ازلية.