التسامح وإذكاء الروح الإيجابية

حينما نريد أن نُشيعَ مفهومَ التسامح الإيجابي، فلنجعلْ له من أنفسنا منطلقًا، وبين مجتمعنا مَدخلاً، وبين قادتنا وعلمائِنا نبراسًا، وفي أعمالنا وتصرُّفاتنا مبرهنًا، علينا أن نتركَ أعمالَنا تتحدَّث نيابةً عنَّا، وأن نرتقيَ بذواتنا، ونتخلَّص من أنانيتنا.
فأنَّى لنا استيعابُ مفهوم التسامُح المأمول

ونحن لم نزرعْه فينا، ولم يَنْمُ في محيطنا؛ حيث لم نرَ إلاَّ الإقصاء للغير، والإلغاء لِمَن نختلف معه، والإبعاد لِمَن أظهر نصحَه، سواء في ميدان البيت والأسرة، أو ميدان الدعوة والعِلم والتربية، أو ميدان القيادة والعمل، وميدان الكلمة والحوار والفِكر؟
في حين أنَّ التلاحم والنجاح في هذه الميادين مرهونان بالتسامح والتطاوع والسمو، والتخلُّص من القيود والأغلال الناتجة عن ركونِ الإنسان إلى أصْل خلقتِه ومادته الأولى من الطِّين، في حين تجذبه وتشدُّه إلى أسفل، فيصدر منه ما لا يليق.
الحديثُ له حاجتُه الماسة لا سيَّما في هذا العصر المليء بالمكدِّرات، ووجود المعكِّرين لصفوِ ساحة العمل، وميادين العلاقات، حيث لم تسرِ في الأرواح السماحةُ والمُطاوَعَةُ في مدِّ جُسور الشراكة والتعاون، وإذْكاء الرُّوح الإيجابيَّة لشركاء البيت والعمل.
ويكتسب الحديثُ عن هذا الخُلق أهميةً خاصَّةً في ظلِّ غياب التلاحم الأُسَري والأخوي، فكم من أُسَرٍ تفككت، وعلاقاتٍ تقطَّعت أواصرها، وتحوَّلت المحبة إلى عداوة، وأضحت الشراكة في العمل الدعوي والدنيوي متشرذمةً ومتمزقةً! وكم من مشروعات وأفكار أُجهِضَت؛ بل وانفرط عقدُ كثير من الكيانات والمؤسَّسات! وكان لضعف خُلُق التسامح والتطاوع حظٌّ وافر من ذلك.

فالمرء حينما يتَّصل بمَن حوله بنفس زكية واسعة، ويكون هيِّنًا لينًا، ويتجاوز حظوظَ نفسه، ويُسيِّر الأمورَ بتيسير وملاينة - فقد جعل من نفسه ظرفًا لقوله - عليه الصلاة والسلام» ألاَ أُخبِركم بمَن يَحرُم على النار، أو تَحرُم النار عليه، على كلِّ قريبٍ هيِّن سهْل”، وأذكى في نفسه الرُّوح الإيجابيَّة.

فالقلوب لن تُفتح إلاَّ عندما نكون ظرفًا لقوله - عليه الصلاة والسلام «اللهمَّ اهْدِ دوسًا وأْتِ بهم مسلمين»، وقوله«اذهبوا فأنتم الطُّلقاء»، وقوله: «اللهمَّ اغفِرْ لقومي، فإنَّهم لا يعلمون».
والدعوة لن تأخذَ مسارَها، وتتمكَّن من الدخول إلى بيت المدر والحجر؛ ما لم تكن سِير الأعلام والأئمَّة ظرفًا لنا في دعوتنا.

فعندما نعيش قصَّة الإمام أحمد - رحمه الله - في عهد المعتصم، بعد أن لَقِيَ ما لقي من الضَّرْب والجَلْد، حتى قال بعضهم: لو جُلِد جملٌ كما جُلِد الإمام أحمد لمات – تجده لا يدور حولَ نفسه وذاته؛ بل أخذ يقول: «مَن ذَكَرني فهو في حِلٍّ، وقد جعلتُ أبا إسحاق - المعتصم - في حِلٍّ،» ورأيتُ الله يقول: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم» النور: 22...

ولن تهبَّ رياحُ النصر على المسلمين اليومَ في شتَّى ميادينهم - لا سيَّما ميدان القيادة والعمل - ما لم يكونوا ظرفًا لمواقفِ أصحاب النُّفوس الكبيرة، منهم أبو عُبيدة عندَ تولِّيه الإمارة، وعزلِ خالد بخِطابٍ من أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنهم أجمعين - فكَتَم أبو عبيدة الخبرَ عشرين ليلة، فيأتيه خالد - وقد عَلِم الخبر من غير أبي عُبيدة - قائلاً: «يرحمك الله، ما منعك أن تُعلِّمني حينَ جاءك؟» فيأتي الجواب من أبي عبيدة - الهيِّن السهل: «إني كرهتُ أن أكْسِر عليك حربك، وما سلطان الدنيا أُريد، وما ترى سيَصير إلى زوال وانقطاع، وإنَّما نحن إخوة، وما يضرُّ الرَّجلَ أن يليَه أخوه في دِينه أو دنياه».

أيُّ مشاعر كانت تغمر خالدًا وهو يرى هذا النورَ يتدفَّق من فم أبي عبيدة، وهو يرى هذا التسامحَ، وهذا الخُلق العالي، الذي لم يجعل لنفسه حظًّا؟..
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الْأَجْسَامُ

إضفاء خُلق التسامُح على النفس وإصباغها به كفيلٌ بتعزيز أواصرِ الأخوة،والتلاحم الأُسريِّ، واستمرارية كثيرٍ من الأعمال ودوامها، وحصول الثمرة المرجوَّة، وتكون الأمور كلُّها على قَدْر من اليُسر والسهولة.والنأيُ عن هذا الخُلُق الرفيع يُشكِّل خطرًا على السلوك والأعمال، وتعصِف بهما رياحُ الجدل والانتقام للنفس وحبِّ الذات، ويتشتت عِشُّ الحياة الأُسريَّة، وتنطفئ شمعتُها، ويكون مطيةً لإجهاض كثيرٍ من المشروعات الإصلاحية للأمَّة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115