فيلم «قدر» لـ إيمان بن حسين: صفعة لإيقاظ العقول النائمة أمام انتشار فساد المال والسياسة

هل تصنع شعوب العالم الثالث مصائرها؟ أم أن هنالك قوى خارجية مالية وسياسية تحدد مصائرنا؟ هل نحن اصحاب القرار الاول اثناء الانتخابات وأثناء اختيار

مرشحينا للرئاسة ام هناك من يخطط ويقرر؟ وهل شعوبنا تنفّذ بعد استهلاكها السلبي للبرامج الحوارية في منابر اعلامية موجّهة؟ هل أن التونسي هو المسؤول الوحيد عن ازماته الداخلية السياسية والاقتصادية ام هناك اطراف اخرى تحركه كقطع «البوزل» تفككه وتعيد تركيبه وهو منبهر بنجاحاته «الواهية» مع أسئلة اخرى تطرحها بجرأة ايمان بن حسين في فيلمها الروائي «قدر».
«قدر» فيلم روائي طويل لإيمان بن حسين، تمثيل وجيهة الجندوبي وتقلا شمعون ومهذب الرميلي ومعز القديري ورابعة السافي ويونس الفارحي ورياض حمدي وموسيقى لربيع الزموري ومونتاج احمد حمدي، الفيلم صرخة ضدّ الفساد السياسي والمالي والاعلامي.
في دول العالم الثالث: سلطة المال تصنع المشهد العام
تتعالى الهتافات، تهتف الحناجر بالحرية والديمقراطية، يرتفع عدد الاحزاب، تبث الاموال بطريقة مهولة في الشارع التونسي، تنجز الانتخابات، تفوز احزاب وتنهزم اخرى، مشهد يبدو طبيعي لمن لا يعرف الحياة السياسية، لكن ايمان بن حسين تقرر ان تضع جمهور السينما امام حقائق لا يعلمها، تضعه امام مرآة جهله بحقيقة الفساد المالي والسياسي، عبر الكاميرا تجعل الجمهور يلامس قبح الحقيقة ويستنشق الرائحة العطنة للفساد والمحسوبية والظلم ولمن باع الوطن امام سطوة المال.
في «قدر» تكتب المخرجة قدر مختلف للشخصيات والشعوب، تعالج الواقع وتنقل الكثير من الحقائق بمسمياتها المختلفة تحت غطاء «السينما» في فيلمها تطرح المخرجة موضوع انتشار شباك الفساد السياسي والمالي والاعلامي في تونس وبلدان العالم الثالث، تنطلق من فكرة وجود قوى خفية في العالم تخطط وتسطّر لمصائر الشعوب ومنها الشعب التونسي، هذه القوى الخفية سياستها الاولى المال ثم الدم، تكافئ الخانعين ومنفذي مخططاتها وتحيل من يفكر بالرفض الى غرفة الاموات، فهم ينتصرون دائما، وحدهم العارفون بمشاكل الشعوب والقادرون على شراء الذمم.
في «قدر» يطرح موضوع الفساد السياسي عبر شخصيتي «سي العروسي» (محمد الداهش) و»احمد» (معز القديري) الاول رئيس لحزب يساري معارض «دفعت الكثير من جسدي وتعبي ودمي لتتحرر تونس من الديكتاتورية، من حقي الجزاء» فيشوه معهارضيه ويقتل احدى قياداته فقط لمعرفتها بحقيقة الاموال المشبوهة،والثاني رئيس حزب جديد الولادة، طموحه يقوده الى الطمع هو الاخر ينخرط في حملة «بيع واشري» ويبيع حبيبته وافكارها للمنظمة إلى من يدفع اكثر فقط ليحقق طموحه للوصول الى كرسي الرئاسة، ومع تصاعد الاحداث تقترب الكاميرا من هاتين الشخصيتين وتكشف مدى بشاعة المنظومة السياسية واغلتناحر الحزبي غير النزيه امام كثرة الشعارات مثل «الديمقراطية والحرية والامانة».
المال يحقق المعجزات، المال يشتري الذمم، يعطي الحياة لمن يريده وينزعها ممن لا يرغب به، سلطة المال هي اهم الاسلحة التي تستعملها القوى الخفية لتحريك الشعوزب وتحديد مصائرها، المنظمة تجند التونسيين، تخطط مصيرهم وانجازاتهم وعليهم فقط التنفيذ «هل اقترح عليك بعض الخطط»، «لا عليكم فقط بالتنفيذ» كما حصل في أحد الاتصالات بين ممثلة المنظمة في تونس والصوت المجهول من دولة اخرى، فالسلطة المالية هي السلاح الاول لدفع الشعوب للصراع، هي من توجه الراي العام ومن يصنع القرارات ويضع قوائم محددة تنتصر في الانتخابات، سلطة المال وبشاعتها دمرت المنظومة القيمية لشعوب تعتقد انها حرة.
«قدر» فيلم مسكون بطاقة نقد، فيلم يتماهى مع الكثير من المشاهد فالمخرجة تضع المجتمع التونسي والسياسة والاعلام على «طاولة تشريح» وتمد المقص لجراح لا يخاف، فيشرح هذه المنظومة العليلة ويقدم تقاريره ومنها تتحول تلك التقارير الى مشاهد سينمائية ولقطات عبرها تنقد المخرجة الواقع وتكشف الفساد المستشري عبر الكاميرا اكثر الاسلحة قوة متى وجد مخرج جريء وانسان وطنيّ يدافع عن افكاره ووطنه كما تفعل ايمان بن حسين.
السينما سلاح للتغيير
السينما سلاح الصادقين والحالمين، للسينما القدرة على التغيير، وحدها الكاميرا التي يقف خلفها مخرج وطني يمكنها الانصات لهموم الشعب والانتصار لقضاياه، في فيلمها تضع ايمان بن حسين نفسها وتجسد معاناتها لأعوام وهي تشتغل على السينما الملتزمة وتنتصر للحقائق المخفية وتعرّي الفساد والمحسوبية، كل هزائمها وانتصاراتها وألمها تضمّنه في الفيلم من خلال شخصية «نور» التي جسدتها رابعة السافي، نور مخرجة سينمائية جريئة، انجزت فيلم قوبل بالكثير من العنف لجرأتها في طرح مواضيع مجتمعية.
نور تونسية تحب وطنها وتؤمن بالتغيير وقدرة السينما على كشف الحقيقة فتقرر انجاز فيلم ثان على قضية اختفاء احدى القيادات الحزبية (تختطف، تعذب، ثم تسقى منوما وترمى من الطابق الخامس ويسجل الطبيب الشرعي انها ماتت منتحرة)، وفاة القيادية والمؤثرة يكون نقطة الانطلاق للكشف عن شبكة الفساد المالي والسياسي المتورط فيه العديد من الاطراف من داخل تونس وخارجها، كل الاحداث المخيفة تعيشها الشابة وتستطيع اتمام جزئيات التصوير والحصول على شهادات مؤلمة من اكثر الاطراف ظلما (طبيب التشريح) وتنزل بعض الفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي، نور تنجح في فضح الشبكات الفاسدة لكنها تدفع الكثير، تدفع حريتها وصحتها العقلية والم القلب، في الفيلم لم تنتصر شخصية نور على الفاسدين، نجحت في كشف الحقائق لكنها خرست المعركة، لكن ايمان بن حسين نجحت في كسب مسيرة سينمائية ونجحت في تحقيق جزء من ذاتها بين الشخصية والواقع.
تقنيات سينمائة مع أداء مسرحي
اختلفت المواضيع المطروحة في فيلم «قدر»، تماهى السياسي مع المجتمعي والاقتصادي، في فيلمها اعتمدت المخرجة عى ممثلين يحملون في قلوبهم فكرة الالتزام والصدق اثناء الاداء، راوحت المخرجة في تقنياتها السينمائية بين الواقع والفلاش باك، فالاستحضار مطية ليفهم المتفرج تطوّر الشخصيات ومسارها الدرامي، بين الظلمة والنور تكون الاحداث»، الظلمة تستعملها في المشاهد المعبرة على الخوف او الظلم او الفساد والقتل، والنور سبيل الشخصيات للتحرر من فسادها والانتصار فقط للحقيقية.
في «قدر» ثلة من الممثلين الذين تحمّلوا اضطراب الشخصيات وتناقضها في المشهد ذاته، بتقنياتها السينمائية وادء مسرحي اخرجت المخرجة للجمهور شخصيات مركبة، مخيفة وصادقة في الاداء.
«قدر» فيلم سينمائي يكشف عن انخراط طبيب التشريح في منظومة الفساد، الطبيب المحلّف الذي اقسم في بداية الفيلم على الدفاع عن حياة الناس نجده في وسطه يكتب التقارير المزورة بعد وفاتهم، تتبع الكاميرا شخصية الطبيب عبر تقنية الاسترجاع، فتضع جمهورها امام طفل ذكي، مجتهد ومتميز دراسيا، لكنه يعاني من ظلم زوج الام، جبروت الوالدة وعقاب مدير المدرسة، ذاك الطفل الذكيّ يرتكب اول جرائمه «يحرق والديه» ثمّ يجنّد ويصبح «الة، مانحسش، مانحبش، دون مشاعر» كما يتحدث عن ذاته، الشخصية المركبة نفسيا وجسديا بدع في نحت معالمها مهذب الرميلي ونجح في تقديم دور مختلف عما عرفه به جمهور الدراما والمسرح.
شخصية اخرى تحرك الاحداث، هي صانعة المشهد الممثلة وجيهة الجندوبي، هي الاخرى تواجه عقدها النفسية عبر التحكم في الاخرين، مظهر جديد، شخصية عرجاء وقوية، تبدع الجندوبي في تقمصها لتكون كعادتها مختلفة.
في «قدر» تشارك ممثلة لبنانية في الفيلم، الممثلة تقلا شمعون، شخصية رئيسية، بلهجتها البنانية مع بعض الكلمات التونسية، تقدم شخصية سيدة لبنانية هي من قامت بتجنيد الطبيب ليكون الة لا تفكّر، وبين القوة والضعف، بين الصرامة وبعض الانسانية تتأرجح ملامح الشخصية التي تماهت معها تعقلا شمعون.
في «قدر» ابدع الثنائي رياض حمدي ويونس الفارحي، رغم عدم اشتراكهما في مشاهد موحدة إلا أن لكل منهما حضوره الطاغي حتى وان كان ذلك في مشاهد قليلة، في قدر ادارة ممثل وتوجيه للممثلين لينحتوا شخصياتهم بماء الصدق والاختلاف.
بتقنياتها السينمائية وقدرتها على التأرجح بين النور والظلمة صنعت المخرجة لقطاتها السينمائية وبتقنيات مسرحية صنع الممثلين شخصياتهم فكان التماهي بين نظرة المخرج وقدرة الممثل امام الكاميرا لتقديم فيلم يلتزم بكشف كل اليات الفساد والانتصار للصادقين حتى وإن خسروا معاركهم في الفيلم فالحرب لازالت مستمرة والصادقين والوطنيين لازالوا يصارعون ليحافظوا على اوطانهم.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115