يضعون أمام المشاهد مادة دسمة للنقد وطرح الاسئلة عن واقع الشباب التونسي وانتشار الأمراض النفسية المؤدية إلى الجريمة، كيف تدخل المخدرات وحبوب الهلوسة الى تونس؟ لمَ نجد الشبان والمراهقين الأكثر إقبالا على هذه الحبوب؟ لم كل تلك الرغبة في الهروب من واقعهم؟ هل تحترم الدولة وأفرادها الحريات الشخصية؟ وأي دور يقوم به الإعلام لاستبلاه المواطن وسلب عقله وجعله آلة لا تفكر فقط تلتهم ما يقدم اليها بوحشية وحيوانية؟
كل هذه الاسئلة تطرح في مسرحية «تائهون» دراماتورجيا عبد الحليم المسعودي واخراج نزار السعيدي وتمثيل كل من تماضر الزرلي وانتصار عويساوي ومحمد شعبان وعلي بن سعيد وصادق الطرابلسي وجمال ساسي ورمزي عزيز.
تختلف طريقة الطرح لكن صدق الممثل ثابت
مواضيع شائكة ومتشابكة عديدة يطرحها الممثلون على الركح بأجسادهم وفي مساحات لعب مفتوحة، يغيب الديكور عن المسرحية وتصبح حركات الممثلين هي الفاصل المكاني بين الأحداث، الزمن ايضا يغيب فالإضاءة ثابتة والممثل هو محدد توقيت الحدث حسب خطابه وطريقته في التعبير عن وجع الشخصية. «تائهون» عمل يشرّح المنظومة التربوية ويكشف عوراتها من خلال شخصية «زهومة» استاذ الفلسفة الذي يعترف بانخراطه وزملائه في منظومة تقوم على الحفظ لا الفهم لتعبئة الرؤوس الخاوية بالكثير من المعلومات دون ترك مساحة للتفكير او حتّى الحلم.
الإعلام جزء من خراب المنظومة الاجتماعية، سبب من أسباب التزييف وانتشار الجريمة والتشريع لها ربّما، الاعلام غير المحايد مع القضايا الاساسية والساعي خلف «الاشهار» وثقافة «البوز» من أسباب تراجع المنظومة القيمية والاخلاقية لدى الشباب، كذلك انتشار وسائل التواصل الاجتماعي غير المراقبة جزء من الخراب ايضا، في المسرحية يحمّلون الاعلام نصيبه من الفساد المستشري، في غياب اعلام تلفزي ينشر الصور الحقيقية ويبحث أكثر عن «الاوديمات» يصبح المواطن مستهلكا سلبيا لكل المادة التلفزية المقدمة.
في العمل وقع الاختيار على شخصية اعلامية تدّعي انتمائها لعالم الصحافة وهي «مبنجة، طردت من العمل، فاختارت الاعلام وجهة للنجاح والسلطة»، شخصية مركبة تظهر عكس ما تبطن، وجه جميل وماكياج دائم وابتسامة تزين الوجه، وفي الباطن قبح نفسي واضطرابات وسوء معاملة لطفلتها، شخصية تشد المتفرج ابدعت في لعبها تماضر الزرلي، شخصية الاعلامية وطريقة طرحها للملفات الحارقة (الساذجة) في برنامجها تكشف جزء من اللعبة الاعلامية في تونس والتسطيح الممنهج الذي تمارسه اغلب القنوات لكسب المزيد من المال والاشهار واكبر عدد من العقول الخاوية.
حين تتكاتف مجالات الفساد تتوه الحقيقة، حين تنتشر ثقافة الانتهازية والانانية تمحى تدريجيا ثقافة الالتزام بالحقوق كذلك شخصية المحامية، يختارها كاتب النص طفلة من دواخل البلاد، تقرر النجاح وتحقيق احلامها فقط عن طريق الدراسة، تكبر الطفلة، تزرع احلامها حتى تزهر وتقطف خطوات النجاح الاولى، تمارس مهنة المحاماة بصدق، الى حين تعرّفها على احد رجال الاقتصاد، يعلمها لغة الارقام، لتتحول من محامية تدافع عن المظلومين، الى محامية تقودها اللهفة لمزيد من المال فتاجرت بالحقوق والحريات وكل المواضيع والملفات التي ستدرّ مالا، وكم من محام في هذا الوطن حاد عن طريقه وانتهج طريق «البيع والشراء» شخصية موغلة في السوداوية اتقنتها انتصار عويساوي وكان اداؤها مختلفا عن بقية الشخصيات التي اشتغلتها سابقا مع المخرج نزار السعيدي.
«تائهون» تجربة مسرحية اساسها زاد الممثل ورغبته في انجاح الشخصية والتماهي معها حدّ التناص، تنقل صراع الانسان مع مجتمعه بسبب اختلافه شخصية «نيرون» مصمم الازياء، شخصية ابدع في تقديمها الممثل علي بن سعيد، تجربة مختلفة عمّا لعبه سابقا، ينقل العمل الصراع بين بوليس «الحريات» (صادق الطرابلسي) وبوليس «التعليمات» (جمال ساسي)، هو صراع اجيال بين الرغبة في اثبات الذات وبين الخبرة، الاول يريد معرفة اسباب الجريمة لمعالجتها والثاني يكتفي بانهاء محضر البحث وتمرير الملف الى القضاء، شخصيتان تطرحان السؤال عن تعامل البوليس مع الموقوفين وقضايا الاشتباه في الجرائم؟هل يحترمون حقوق الانسان؟ ام «العنف» وسيلة لنزع الاعترافات؟.
تختلف وجهات النظر اختلاف الحقيقة، في المسرحية يكرم النص الفنّ الشعبي عبر شخصية «الجيلاني» عازف الايقاع، رجل يقضي سنواته في العزف في كل الافراح وبداخله سنوات من الوجع، شخصية «الجيلاني» تحية الى كل ممارسي الفن الشعبي ممن سقطوا من المصادر الرسمية والذاكرة الشعبية، اعتراف بدورهم في حماية الموروث الشفوي، الجيلاني شخصية تقمصها رمزي عزيز فكان صادقا ومقنعا.
«تائهون» سؤال عن الحقيقة المطموسة؟
«تائهون» مسرحية اجتماعية سياسية تنقد الواقع وتشرحه وتضع الجريمة على طاولة التشريح، محاولة للبحث في أسباب انتشار هذه الظاهرة لدى المراهقين والبحث اساسا في العوامل النفسية انطلاقا من العائلة وصولا الى المحيط الدراسي ثم المجتمع، في العمل يوجّه الممثلين اصابع الاتهام للجميع، فكل مواطن يشارك في نشر ثقافة الجريمة بطريقة ما، إما بالتنمر او التحرش او اخفاء الحقيقة او غياب الثقافة او السكوت وقت الخوف، جميعها دوافع لخلق مجرم يتحول إلى وحش ادمي كلما ارتفع عدد ضحاياه كما فعلت «اشراق» التي قتلت امها واستاذها ثم قتلت نفسها، فمسلسل الجريمة يشبه كرة الثلج كلما تدحرجت كبر معها الخوف وعدم معرفة الخطوة القادمة او الضحية الجديدة.
«تائهون» مبحث اجتماعي سياسي ينهل من المرجعيات العالمية التي خاضت تجارب وطرحت نظريات في علاقة المسرح بالنظم المجتمعية ومجالات سلطتها لذلك لا اعتبره مبحثا جديد بقدر ما هو تواصل لمنجزات المدونة التونسية والعالمية التي خاضت في هذا السياق، نعم المسرح هو مجال بحثنا على اعتبار انه مهنتنا تدريسا وابداعا والصنعة التي مكنتنا من اكتساب ادوات نبرز من خلالها رؤيتنا للعالم نقترحها على الآخر للتساؤل. فما نقدمه نعتبره وظيفتنا داخل نسيج المجتمع كبقية الوظائف الاخرى رغم الحيف ونكران دور المسرح والفن عموما حسب تعبير مخرج العمل نزار السعيدي مضيفا» ربما لا أحبذ مصطلح رسالة ومقولة للمسرح رسالة فهي تحيلني الى الموعظة والتعالي أصلا لا اعتبر ان من دور المسرح تقديم رسائل بل دوره فتح باب الجدل والتساؤل وبناء الأفكار لا إسقاطها، لذلك اجتهد في أعمالي على تقديم اطروحة تتعدد فيها الأصوات والرؤى فلا سلطة لرأي على رأي آخر».
تائهون تجربة مسرحية وانسانية تكشف قبح الانسان امام مرآته، تعرّي الامراض النفسية والمجتمعية المؤدية الجريمة، مبحث مسرحي يعتمد على ادوات الممثل لادخال المتفرج عنوة الى عوالم السؤال والنقد، تجربة فنية تسكن متفرجها بالخوف والقلق قبل الاتجاه الى مراجعة الذات والسؤال كيف يمكننا الخروج من متاهاتنا النفسية حتى لا نسقط في فخ الجريمة؟.
مسرحية «تائهون» لنزار السعيدي في قاعة الريو: جميعنا مجرمون مع وقف التنفيذ
- بقلم مفيدة خليل
- 10:43 18/10/2022
- 1210 عدد المشاهدات
يكتبون آلامهم على الركح ويحولون الوجع إلىابداع فتتماهى حركة الجسد ولغته مع النص المنطوق، يلامسون المناطق الممنوع الخوض فيها